القلم

الأحد ١٩ يناير ٢٠١٤ الساعة ١٢:٠١ صباحاً
القلم

سورة القلم من أوائل ما نزل ، وفيها جملة عجيبة من القيم والأخلاق التي جاءت بذم ما يقابلها والنهي عن إتيان ضدها .

وقدمت السورة بآية ما أجملها من آية ، امتدح الله فيها خلق نبيه صلى الله عليه وآله وسلم { وإنك لعلى خلق عظيم } ووصفت عائشة رضي الله عنها خلقه بأوجز عبارة وأشملها : كان خلقه القرآن .

ومن تأمل هذه السورة التي ورد مدح خُلقه عليه الصلاة والسلام فيها أسفرت له المناسبة ، وبانت له الحكمة .

ففي السورة نُهي ذو الخلق العظيم أن يطيع { كل حلاف مهين ، هماز مشاء بنميم ، مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم } وهذه أخلاق من لا خلاق لهم ، كثرة الحلف فهو ( حلاف ) يحلف بالباطل ، لهذا وصفه ب ( مهين ) فهو محتقر عند الناس لسفاهة رأيه وبيان كذبه .

والحلف في القرآن يأتي على يمين يعلم صاحبها كذبه ، فيحلف وهو كاذب عليم بكذبه . بخلاف القسم ، فهو يأتي لبيان أن المقسم يعتقد ما أقسم عليه ، كما في قوله { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } وغير ذلك من الآيات . وأما الحلف ففي مثل قوله { يحلفون بالله ما قالوا } وقوله { يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا } فهم يحلفون وهم يكذبون في الزعم وفي الحلف . وهذا يجعل  وصف الحلاف هنا بأنه الحالف على الكذب وهو يعلم أنه يكذب .

وللأسف كثر الحلافون في مجتمعاتنا ، خاصة في تأكيد ما يشيعون وما يختلقون من أساطير ، خاصة ما يشاع عن الأئمة الأعلام من العلماء ، أو من الحكام ، أو من مشاهير الناس ، فينسجون القصص حولهم ويحلفون بالله إن سندها لمتصل بالعدول الثقات ، وكل السند مجاهيل ليس فيهم صدوق ، إلا من رحم الله ، وقليل ما هم .

ووصف المرء بكثرة همزه ، ويندر أن يكون الهمز إلا مع غيبة ، أو سخرية من حاضر ، وهذه من أسوأ الأخلاق وأشدها حرمة .

وجمع الشر من أبوابه بمشيه بالنميمة ، ينقل الكلام ليوغر الصدور بين المتصافيين ، ويشعل نار الحرب بين المتآخيين ، ويفرق شمل المتحابين ، وما أشدها من جريمة .

وهو غليظ جاف في طبعه ، دعي ، فيه تجبر ، وغلظة عرف بها لشدة تجبره ، فاستحق الوصف { عتل بعد ذلك زنيم } .

هذا مختصر ساخن لبعض الصفات التي تنخر في جسد المجتمع وتنقض صفه ، وتهدم بنيانه ، وتملأ القلوب غلا وحقدا وعداوة وبغضاء .

فليس يتخلق بها من تشبه بالموصوف بأنه على خلق عظيم ، خلق جاءت منثورة في القرآن العظيم ، حيث الحث والتأكيد على الاعتصام بحبل الله والاجتماع وعدم التفرق والتنازع ، وحفظ اللسان ، وغير ذلك من أخلاقيات الدين السمحة ، التي تجمع ولا تفرق ، وتصلح ولا تخرب .

وفي السورة التحذير عبر القصة من الشح والبخل كما في قصة أصحاب الجنة ، والحث من خلالها على السماحة والبذل والتواضع للفقراء والمساكين ، وسرعة التوبة إلى الله من سيء الأخلاق .

ومن أهم ما نهت عنه السورة طاعة المكذبين ، وبينت أنهم { ودوا لو تدهن فيدهنون } وهي عروض سيواجهها كل مستن بذي الخلق العظيم ، ممن يأبى الانقياد لسنته ، والتصديق بشريعته ، سيواجه مغريات ومغريات ، ربما توهم من حسنها أنها في صالح دعوته ، وأنها ربما جذبت إليه الأتباع ، أو خففت عنه الأعباء ، وما تلك الظنون إلا أوهام ، وما تلك المغريات إلا هباء .

هذه غرسة من أخلاق الإسلام تبذر في أرض الدعوة ، لتثمر حسن التعامل ، ورقة الإحساس ، وهي التي أنتجت جيلا هاجر وأخرج من دياره ابتغاء رضوان الله ، ونصرة لله ، وآخرين أحبوهم ، وسلمت صدورهم من الحسد والتعالي ، بل جاوزوا تلك المستنقعات الخسيسة إلى نهر الإيثار ، الذي يصب في بحر العطاء .

ويتبين من خلالها أن الأخلاق هي الغاية من الرسالة ، الأخلاق المزكية للأنفس ، المطهرة للقلوب ، كما في حديث المفلس الذي يأتي يوم القيامة بأعمال جليلة ، صلاة وزكاة ، وصدقة وصياما ، فتتفرق حسناته التي أتعب نفسه في جنيها بهذه الأعمال ، وما نال الحسنة إلا بقبول وإخلاص ومتابعة ، فقد بذل فيها وسعه ، لكنه أضاع كل ذلك بما ناقضها من شتم لهذا ولطم لهذا وغيبة ونميمة وأكل لمال بالباطل ، وظلم واعتداء .

وتحتاج هذه السورة إلى مزيد عناية من الخطباء والمفكرين والوعاظ للغوص في أعماقها واستخراج كنوزها في زمن ضاعت فيه القيم ، واختلط الموروث السيئ بالشريعة السمحة حتى زاحمها وأقصاها ، ولا يكون هذا إلا بالعلم والتعليم ونشر الهدي عبر الكتابة والتقنية التي يسرها الله لعباده لمواجهة السيل المنجرف بالكذب والزور والبهتان . والله من وراء القصد .

تعليقك على الخبر
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني | الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق
الاسم
البريد الإلكتروني