{ كن من القليل }

السبت ١ مارس ٢٠١٤ الساعة ١١:٤٢ مساءً
{ كن من القليل }

كان نوح عليه السلام أول الرسل { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } . وقد قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } .
فبمن سيتأسى نوح عليه السلام ، وليس قبله من رسول تقص عليه قصته ، فيتثبت بها فؤاده ؟
ثم إن زوجه وابنه قد كفرا بما جاء به ، وقد كان لحبيبنا صلى الله عليه وسلم زوجات كن عونا له على الطاعة ، وبنات مؤمنات قانتات عابدات رضي الله عنهن .
وكانت مدة دعوته عليه السلام كما أخبر ربنا جل جلاله {ألف سنة إلا خمسين عاما } . بينما كانت مدة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا وعشرين سنة فقط .
فلنقف عند حال نوح عليه السلام ، فما من أحد يتأسى به ، ولا قريب يسانده ، ولا زوج تخفف عنه ، ولا ابن يشد من أزره ، وطال به الزمن جدا ، فلم يتأفف ، ولم ييأس ، ولم يعجز ، بل واصل المسيرة ليلا ونهارا ، سرا وجهارا ، حريصا كل الحرص على أن يهتدوا ، وليتهم أعرضوا عنه ، ولكنهم واجهوه بكل سخرية واستهزاء . وأصروا واستكبروا استكبارا .
وقد كان حبيبنا صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته يواجه بالسخرية والاستهزاء ، ولكن كان أتباعه في ازدياد ، وكان دينه في علو ، وقال عليه الصلاة والسلام عنه وعن الرسل قبله : وأرجو أن أكون أكثرهم تابعا . وأما نوح عليه السلام ، فبعد كل هذه السنين الطوال ، ما آمن معه إلا قليل .
هذه مقارنة بسيطة بين ما كان من أول الرسل وآخرهم ، عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين . فيا ترى ما هو الدرس الذي نستخلصه من مقارنة سريعة بسيطة كهذه ؟
إن من المستقر في الأذهان شرعا أن محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم هو أفضل الرسل ، بل أفضل الخلق على الإطلاق .
ولقد حاز هذه الكرامة ونال تلك المنزلة ، مع تأخره زمانا ، وقصر مدته ، ووجود العوامل الأخرى التي كانت تسانده وتشد من أزره .
وبلال رضي الله عنه ، مع أسبقيته ، ومع ما ناله من عذاب ، وصبره وتحمله ، وخشخشة نعليه في الجنة ، لم يكن واحدا من العشرة المبشرين ، وبالتالي لا يوازي أحدا منهم في الفضل والمكانة ، وإنك لتعجب من أحد المبشرين بالجنة لا يعرفه أكثر الناس ، وليس له في كتب السير مناقب تذكر ، وهو أحد أفضل هذه الأمة .
إذا ليس سبق الزمان بموجب للفضيلة ، وليس بالتالي تأخر الزمان بمنتقص منها .
كما أنه قد يبتلى المرء ، ويريد الله به خيرا في ابتلائه ، بيد أنه لا يعني بحال أن من لم يبتله الله أقل فضلا أو أدنى منزلة ممن ابتلي .
وزد على هذا أنه قد يمن على أحد الناس بفضيلة ، ويختصه الله بمزية ، ولكنها أيضا لا تعني بحال أنه أفضل ممن لم ينل تلك المزية ، أو تلك الكرامة ، فقد كلم الله موسى تكليما ، وأوحى الله تعالى إلى نبيه بواسطة جبريل ، واتخذ الله إبراهيم خليلا ، وأمر حبيبنا باتباع ملته ، فأمر الفاضل باتباع المفضول ، صلى الله عليهما وسلم .
ويضرب المثل بصبر أيوب عليه السلام ، وابتلي يوسف بالسجن والعبودية ، وفتنة النساء ، وسلم منها الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا يزال بأبي هو وأمي أفضلَ الخلق ، وسيدَ المرسلين .
إذا تفهمنا هذا تبين لنا أن من الخطأ أن نفضل أحدا على أحد بفضيلة ما أو ببلاء ما ، أو على العكس من ذلك فيذمون أحدا ما بحرمانه من فضيلة أو ابتلاء ، وإنما تحقيق العبودية الكامل لله تعالى هو المحك ، وهو الميزان الذي يجب أن يوضع المرء فيه وعمله ، ليعلم مدى فضله وسبقه .
فنوح من أولي العزم ، أول الرسل ولم يكن أفضلهم ، وبلال سبق عمر في الإسلام ولم يكن أفضل منه ، بل سبق عمر كل من سبقه سوى الصديق رضي الله عنهم أجمعين .
وبهذا الفهم نستطيع أن نسابق ، وأن نسبق ، لكننا نحتاج إلى نية صادقة ، وعزم أكيد ، وسعي حثيث ، وعمل دءوب لا عجز فيه ولا تكاسل لنلحق بالركب ، فقد نسبق من سبقنا ، ونلحق بمن فاتنا ، فاستعن بالله أخي المسلم ولا تعجز .
وقد فتح الله لنا أبوابا من الخير وفق إليها فقد يصف مع الرعيل الأول ، فقد قال سبحانه وتعالى { والسابقون السابقون ، أولئك المقربون ، في جنات النعيم ، ثلة من الأولين ، وقليل من الآخرين }.
فلم يغلق الباب في وجه الآخرين ، وإن قلل عددهم ، فجاهد نفسك أن تكون من هذا القليل ، الملحق بالثلة السابقين .

تعليقك على الخبر
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني | الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق
الاسم
البريد الإلكتروني

  • أم أسامه

    درس رائع جزاك الله خيرا

  • wau

    كم أحبك في الله أيها الشيخ الجليل .. أسأل تعالى أن ينفع بعلمك .

  • ابو محمد

    الله يجزاك خير يا شيخ عادل

  • ابو حمد

    جزاك الله خير ياشيخ عادل … مقال في منتهى الروعة والإبداع