العرابي : تاريخ الإعلام يمر بمرحلة مفصلية

الخميس ٣٠ يوليو ٢٠١٥ الساعة ١:٣٢ مساءً
العرابي : تاريخ الإعلام يمر بمرحلة مفصلية

ألقى رئيس مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام الدكتور فهد العرابي الحارثي كلمته خلال الجلسة الافتتاحية الرئيسة للندوة العالمية “الاعلام العربي في عصر الإعلام الرقمي “التي تنظمها مؤسسة منتدى أصيلة بالتعاون مع وزارة الإعلام الكويتية وبمساهمة مركز أسبار للدراسات والبحوث في الرياض والمقامة في المملكة المغربية، فيما يلي نصها:
عندما تفضل معالي الأخ الكريم الأستاذ محمد بن عيسى بمهاتفتي راغباً في مساهمة مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام بالمملكة العربية السعودية في ندوة حول : ” الإعلام العربي في عصر الإعلام الرقمي ” عبرت لمعاليه على الفور عن سعادتي بقبول الدعوة للمساهمة في هذه الندوة ، أولاً لأنه محمد بن عيسى ، وثانياً لأنها أصيلة ، وثالثاً لما للموضوع الذي تناقشه الندوة من أهمية بالغة اليوم بعد أن نقلنا إيقاع التقدم السريع في العالم إلى عصر ” ما بعد الحداثة ” عصر ما بعد الصناعة ، عصر إقتصادات المعرفة والعالم الرقمي ، والخطوط أو الطرق السريعة لتدفق المعلومات . هذا العصر الذي قدم بين أيدينا ولخدمتنا منتجاته الخاصة المذهلة ، في الوقت الذي نقل فيه منتجاتنا التقليدية ذاتها إلى مستويات أرقى وأقوى ، ما كان له بالغ التأثير على الشكل والمضمون ، بل وعلى المزاج العام ، والأهداف المتوخاة ، مما ننتج من معرفة ومن معلومات .
لقد طالت تلك التأثيرات صناعة الإعلام بطبيعة الحال ، بل هي أحدثت ثورتها في الصانع والمصنوع .
فالصانع : لم يعد ذلك الإنسان الذي عرفناه : ثقيلاً ، متراخياً ، متأنياً ، ومعتداً بنفسه ، مزهواً بإنفراده وتفرده . والمصنوع لم يعد تلك المنتجات المتحلية بشروط النخبوية في الإعداد ، والإرسال ، والإستقبال .
في جملة : فقد كان مجيء العالم الرقمي إعلاناً صريحاً للتبشير ب ” موت النخبة ” الآزف ، إذ أصبح الناس يشتركون كلهم في إنتاج المعرفة ، وإنتاج الثقافة ، وهم أيضا يشتركون في إنتاج إعلامهم . فلم تعد الثقافة أو المعرفة تهطل على رؤوس الناس من الأعلى ، إذ تلاشت ديكتاتورية ” المثقف ” الصانع التقليدي لمنتجات الثقافة ، وقد حلت محلها “ديموقراطية المعرفة” التي سهلت لكل الناس تداول المعلومات والأفكار ، ويسّرت وعمّمت إعادة إنتاجها. أي أن إنتاج المعرفة أصبح ، بهذا التدخّل ، أفقيا ، ينمو من الأطراف ، بعد أن كان رأسياً ، يتغذى فقط من المحور أو المركز المتعالي فوق عرشه الأعلى ، فكان تأثير ذلك واضحاً على رحابة المنتجات وغزارتها ، حتى قيل إن ما أنتج الإنسان من المعلومات ، في السنوات المنصرمة من هذا القرن الجديد(الواحد والعشرين) ، يساوي ما أُنتج منذ أن خلق الله الارض ومن عليها ! وثبت بالفعل ومن جديد أن إستهلاك المعرفة يزيد في نموها وتكاثرها على عكس كل الأشياء سواها .
والذي غير وجه التاريخ بهذا الشكل الدراماتيكي هو التسارع المذهل في تطور التقنية ، لؤلؤة عصر ما بعد الحداثة ، ألتي أفضت إلى ما يسمى بثورة المعلومات وثورة الإتصال .
وهذه الثورة ذاتها هي التي دفعت إلى خطوط الإنتاج بصانعين جدد كانوا يكتفون في السابق بدور المستهلك فحسب .
من جهة أخرى ، و على مستوى الإعلام تحديداً : تميزت الصناعة الجديدة بثلاث مميزات رئيسة هي : السرعة ، والآنيّة ، والتفاعلية الحيوية ، في دينامية لم نشهد لها مثيلاً من قبل . فالصحفي اليوم يستطيع ، من موقع الحدث ، عن طريق جهاز بحجم الكف ( هاتفه الجوال مثلاً ) أن يجهز التقرير الي يريد نشره ، وأن يلتقط الصور المصاحبة ، وأن يهيئ ، في ذات الوقت ، الإكسسوارات الأخرى ( مثل الأشكال والجداول والإحصاءات وغيرها ) عن طريق الإنترنت ومحركات البحث المختلفة المتيسرة والموفرة لجميع الخدمات ( هي إرشيفات محيطية مذهلة ) ، يستطيع صحفي اليوم أن يضع كل ذلك في المكان المخصص للنشر وهو لم يبرح موقعه بعد . وهذا العمل الذي كان يقوم به في الماضي فريق من العاملين أضحى من الممكن أن يضطلع به اليوم شخص واحد فقط .
لم تنته صناعة التقرير العتيد بعد ، فالصحفي ، بعد كل ما تقدم ، يستطيع أن يجري التحديثات اللازمة على تقريره في كل لحظة ، فيثريه ويجدد خلاياه بلا توقف ، يتابع وينقل الأحداث فوراً ، طازجة في لحظة ولادتها ٠ ثم إنه يستطيع أن يترك الأبواب مفتوحة أو مشرعة بالكامل لشركائه الجدد في الصناعة : وهم القرّاء أو الزوار أنفسهم ، فيدلون بما لديهم من معلومات أو آراء أو أفكار . وهكذا يكون وجه الصناعة قد تغير بالكلية كما تلاحظون .
أما الصانع فلم يعد ذلك الإنسان الخارق الذي لا يجيد عمله أحد سواه ، فقد ولد اليوم ما عرف ” بالمواطن الصحفي” الذي يتولى البحث عن المعلومة ويصنعها بنفسه لنفسه وللآخرين ، فقد مكنته الثورة التقنية من صناعة رسالته ومن معالجات إستهلاكها: سرعة وتفاعلاً . كما أن هذه الثورة ذاتها أزاحت عن المواطن الصحفي إستبداد الصناع التقليديين الذين كانوا يستأثرون وحدهم بشرف هذه الصناعة ، فهو اليوم حرّ طليق ، ولا وصاية عليه من أحد ، ولا رقابة عليه من أي جهة . فإن كل أحد اليوم يستطيع أن يشيد منبره ، أو قولوا يُنشئ صحيفته أو مدونته ، بلا أذونات أو تصاريح أو رخص من أي شخص أو جهة ، وبأقل التكاليف المادية أو البشرية . كما أن هذه الثورة ذاتها هيأت للناس منصات أخرى متعددة للتعبير الجماهيري أو للتفاعل الإجتماعي في مستوياته المختلفة ، وهي منصات لم يعرفوها من قبل : فيسبوك ، تويتر ، إنستغرام ، واتسآب ، سناب شات ، وغيره ، وغيره . وقد تعودنا ، في الراهن والماثل ، أن تكون الأيام حبلى بالمفاجآت والمستجدات .
لقد كان لعصر ما بعد الحداثة وعصر الإنترنت خير كثير على المواطن في كل مكان من هذا العالم ، والخير الأكثر كان بطبيعة الحال على المواطن العربي تحديداً ، فقد فتح هذا العصر الجديد في وجهه الأبواب التي كانت موصدة ، وفسح أمامه الآفاق التي كانت مغلقة ، وقد نما لهذا المواطن بعض الريش الذي مكّنه من الطيران الذي لم يصل بعد إلى مستوى التحليق . فلا سلطة لأحد على عقله أو تفكيره أو ذوقه أو مزاجه ، فأختفت آثار “القلم الأحمر ” وخفت إلى حدما صوت السوط والمزلاج . لا بل إن الصانع التقليدي للإعلام وجد هو الآخر متنفسا لتحسين بضاعته التي يقدمها للناس ، فهي اليوم أكثر صدقاً ووضوحاً ، وهي أبلغ جرأة و شجاعة ، وهي التي كانت ترتع في صحن السلطان صارت اليوم تتودد للناس وتتقرب لهم ، إحساسا بأن هؤلاء الناس ، بأدواتهم الجديدة ، سيكونون الشركاء الفعليين في بناء المستقبل ، إن لم يكونوا هم صانعيه برمته . فالربيع العربي ، بغض النظر عن مواقفنا المتباينة منه ، إنما كان صناعة الإعلام الجديد بإمتياز .
و كل ما تقدم إنما يعبر أيضاً عن مرحلة مفصلية و جديدة بالكلية في تاريخ الإعلام ، وهي مرحلة الإنتقال من “إعلام السلطة” إلى ” سلطة الإعلام ”
أيها الإخوة والأخوات :
لن أستبق هنا الأحداث في مناقشة المحاور الحيوية لهذه الندوة المهمة ، فسأترك هذا الأمر إلى أحايينه المقررة المنتظرة اليوم و خلال اليومين المقبلين ، إنما أردت فقط أن أمهّد وأسهم في وضع الفرشة الأولى لمناقشاتنا وذلك من خلال نظرة بانورامية مختصرة وسريعة على فضائنا الجديد ، في عالمنا الإعلامي بعد الثورة التقنية ، في زمن ما بعد الحداثة . أما محاور الندوة نفسها فستكون أكثر تخصصية من حيث الكشف عن ملامح السلب والإيجاب ، المحددات والمهددات في عصر الإعلام الرقمي .