خطيب المسجد الحرام: كلما أحسنت البشرية فقه السنن الربانية هنئت هناءً لا نظير له

الجمعة ٢٤ فبراير ٢٠١٧ الساعة ٤:٠٠ مساءً
خطيب المسجد الحرام: كلما أحسنت البشرية فقه السنن الربانية هنئت هناءً لا نظير له

قال فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور خالد بن علي الغامدي إن هذا الكون الفسيح وما حواه من عظيم صنع الله وبديع آياته، وحكيم أفعاله يسير وفق سنن ربانية وقواعد متقنه لا يحيد عنها ولا يميل، في إحكام وثبات واستقرار لو اختل شيء منها طرفة عين لفسدت السموات والأرض ومن فيهن.

وأضاف في خطبة الجمعة التي ألقاها في المسجد الحرام اليوم “إن السنن الإلهية التي بثها الله في الكون والأنفس والمجتمعات سنن ثابتة مستقرة مطردة لا تتبدل ولا تتحول، وذلك من أعظم صفاتها، سنن شاملة للعالم كله علوية وسفلية، شاملة لكل شيء في هذا الكون، فربنا سبحانه في كل لحظة وكل يوم هو في شأن، وكل شيء عنده بمقدار ( قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا).

وأردف “إنها السنن الإلهية الثابتة المطردة الشاملة التي لا تحابي أحداً دون أحد ولا تجامل أمةً دون أخرى فكل من حقت عليه سنة الله فهي واقعة به لا شك، عصى الرماة أمر رسول الله في أحد فهزموا، مع أنهم كانوا على الحق، لأن سنة الله لا تحابي أحد، ونصر الله وإعزازه وإكرامه ينزل إلى الناس وفق سنن دقيقة محكمة، والهزيمة والذلة ويستحقها الناس سنة محددة واضحة المعالم بينةٍ لا غموض بها وتلك صفة أخرى من صفات السنن الربانية لمن تأمل وتفكر وأحسن استعمال عقله في استخراج واستنباط السنن، ورأى كيف أن أحداث الحياة والتاريخ والأفراد والأمم تسير وفق هذه السنن العجيبة الواضحة البينة، أما الغافلون عن هذه السنن الإلهية اللاهون عنها فسوف يعضون أصابع الندم.

وتابع فضيلته قائلاً : إن السنن الإلهية في الأنفس والأفاق والمجتمعات كثيرة ومتنوعة بتنوع متعلقاتها، فهناك سنن كونية طبيعية وسنن اجتماعية، وسنن حضارية اقتصادية، وسنن تاريخية، وسنن الاستخلاف والتمكين وقد بين الله سبحانه كثيراً منها في كتابه وعلى لسان رسوله وأمرنا سبحانه أن ننظر ونتأمل في الآيات والقدر وأحداث التاريخ والقصص والقرآن لكي تنشأ عقول ناضجة مدركة لهذه السنن التي تحكم المجتمع الإنساني وطابع الأشياء، ولتكون مؤهلة لتفسير الكون، والنظر والاعتبار بحالات الأمور وعواقبها وموازين النهوض والسقوط والتداول الحضاري.

واستطرد “فالله سبحانه أوضح هذه السنن أيما إيضاح وأراد منا أن نتعلم على السنن ونتفقه فيها لكي نحسن الاستفادة منها في حياتنا وأمورنا وتقدمنا وحضارتنا، ولا جرم أن هدايات القرآن وقواعد السنة قد تضمنت خلاصة السنن الربانية التي تحكم الحياة والكون وتربط الأسباب بالمسببات والمقدمات بالنتائج في سياقات وأطرٍ دقيقة محكمة تظهر في حديث القرآن والسنة عن الأولين ومصارع المكذبين وأحوال الأمم والممالك والنصر والهزيمة حديثاً مبنياً على هذه السنن الإلهية القاطعة الصارمة التي لا تستثني أحداً، والبشرية دائماً في حاجة شديدة إلى دوام التذكير بهذه السنن والتنبيه عليها”.

وبين الشيخ الغامدي أن هذه السنن الربانية منها ما هو عام يمكن لكل البشرية أن يستفيدوا منها وهي ليست حكراً على أحد وقد يفتح الله على البشرية في زمن معرفة السنن ما لم يفهمه على من كان قبلهم وهذه السنن الربانية العامة هي الأكثر عدداً والأوسع مساحة في التاريخ البشري، كالسنن النفسية والآفاقية، والسنن المتعلقة بالكون وجريان أموره وأحواله على وفق تدبير الله، وتعاقب الليل والنهار وسير الشمس والقمر وسنن الخلق والاجتماع والإنشاء والبناء والعمران والحضارات والاستفادة من خبرات الأرض ومفاتيح عمارتها في التقييم العلمي والحضاري.

وأوضح أنّه “كلما أحسنت البشرية فقه هذه السنن الربانية العامة وأتقنت التعامل معها وهديت لاكتشافها لتحقيق الاستخلاف والخير العام عاشت عيشة حسنة وهنئت في حياتها هناءً لا نظير له”.

ولفت إلى أن المسلمين الأوائل أبدعوا في الحضارة والتقدم والرقي لاكتشافهم هذه السنن ولحسن تعاملهم معها والاستفادة فيها، فلما تخلوا عن ذلك وغفلت الأجيال المتعاقبة عن سنن الله في الكون والحياة فعملوا عليه وفق هذه السنن الربانية فاستحقوا طرفاً من العطاء الرباني المفتوح لكل من وافق السنن وأحسن الاستفادة منها ولكن هذا الفتح الدنيوي الذي ترونه قد فتح عليهم وأغرقت عليهم فيه النعم وهم بعيدون عن الله قد غرقوا في الشهوات واللذات إنما هو في الحقيقة فتح مادي قد خلا من البركة والطمأنينة ورضا الله وهو يجري أيضاً وفق سنة الاستدراج والإملاء والإمهال وقد يطول ذلك الاستدراج والإمهال وقد يقصر، سنة ربانية لا تتبدل ولا تتغير فاعتبروا يا أولي الأبصار.

وأشار إمام وخطيب المسجد الحرام إلى أن من سنن الله الثابتة المطردة سننه المتعلقة بنصر دينه وشريعته وأوليائه وحزبه، وسنن نزول العذاب وإهلاك الأمم وغيرها، فهذه سنن خاصة بينها ربنا سبحانه أحسن بيان، حيث جاء التأكيد على أن التوحيد والعمل الصالح هو السبيل الأوحد لنصر الأمة وتمكينها في الأرض مع الأعداد والقدرة المادية ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ) لذا أعدوا لهم ما استطعتم من قوة، وبين القرآن أن أعداء الأمة لهم وقت وأجل معين فإذا جاء أجلهم نزل بهم العذاب، وقد يشك البعض في ذلك لما يرى من تطاول أمم الكفر واستعلائهم وما علموا أن ذلك يجري وفق سنن ربانية وأن سنة الله في إهلاك الظالمين والطغاة قد تطول لما تتحقق على أرض الواقع، وقد تذهب أجيال وتأتي أجيال ثم تقع سنة الله قي الظالمين والطغاة فلا يستأخرون عنها ساعة ولا يستقدمون.

وشدد فضيلته على أن مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم وعصيان أوامره أوسع أبواب الفشل والهزيمة والهلاك العام وظهور الفساد في البر والبحر، وأن ألطف سنن الله وأدقها أن التغيير إلى الخير أو الشر لا يحصل إلا إذا ابتدأ به العبد نفسه فالبشر هم المسئولون ابتداءً عن الصلاح والإصلاح وهم المسؤولون كذلك عن الفساد والانحطاط.

ومضى الشيخ الغامدي قائلاً : ومن أضخم السنن الربانية سنة المداولة بين الناس فيوماً رخاء ويوما شدة ويوما نصر ويوما هزيمة ( وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) ومن آثار سنة المداولة هنا أن يظهر الخبيث والمنافق ويتميز عن المؤمن الصادق وتلك سنة التمييز العجيبة وجاء البيان في القرآن والسنة.

وأكّد أنَّ فشو الظلم وغياب العدل وانتشار المعاصي والذنوب والمجاهرة بها والترف والإسراف من أعظم أسباب تغير الأحوال وزوال النعم وفجاءة النقم ونقص العافية والأرزاق وقسوة القلوب وتناكر النفوس وتباغضها وتسليط بعض السلوك على بعض بالقول والفعل.

وأبرز أن أحداث الكون والحياة والتاريخ وسير الأمم وارتفاعها وانخفاضها، ورغد عيشها وبؤسه، وضيقهِ وبحبوحته وقيام الممالك وزوالها، وازدهار العمران وتخلفِه، كل ذلك يتم ويمضي وفق سننٍ ربانيةٍ صارمةٍ قاطعةٍ لا تتبدل ولا تتغير، راسخة ثابتة ومتكررةٍ مع وجود الحال المقتضي لذلك، والمسلم العاقل الحصيفُ هو من يسعى إلى التعرف على هذه السنن الإلهية ويتفقه في دلالاتها وآثارها من خلال الآيات والنذر وأيام الله، والتأملِ في التاريخ الغابر وقصص القرآن وقراءتهِ قراءة عبرةٍ وعظةٍ، ويتفكر في الأحداث والمواقف ليكتشف هذه السنن التي هي غاية في الدقة والعدل والثبات والاطراد، وفي ذلك فوائد كثيرة وثمرات عظمى لا تحصى.

وتابع “فالمسلم الذي يفقه هذه السنن العامة والخاصة يعرف كيف تسيرُ أقدار الله ويقفُ على شيء من حكمها وغاياتها وعللها، ويُرزقُ البصيرةَ والطمأنينة والثقة بالله، وينظر في الأحداث بنورٍ من الله، ويَعظم إيمانه بربه لأنه يعلم أن الأمور كلها بأسبابها ومسبباتها ونتائجها ومقدماتها هي بيد الله وحده فهو المعز المذل، الخافض الرافع، الباسط القابض، المعطي المانع، مقدرُ الأقدار ومصرفُ الأكوان، قد جعل سبحانه لكل شيء سبباً وقدراً وحكمة وغاية وأجلاً، وأن المسلم الواعي الذي يفقه هذه السنن ينتفع بها في حياته ومعاشه، ويعرفُ طرق ووسائل العزة والحياة الكريمة وإنه ليرى آثارها في حياته”.

وقال فضيلته : إن هذه السنن الربانية الصارمة الشاملة تؤكد أن هذه الحياة ليست فوضى وعبث ولا هملاً، بل هي حياة قائمة على نواميس وسنن وقوانين، فمن يعمل خيراً يجز به ومن يعمل سوءاً يجز به، والله لا يضيع أجر المحسنين، وإن استشرافُ هذه السنن واستكشافُها وموافقتها يُحيى في الإنسان الشعور بالمسؤولية والأمانة، ويصنع منه عاملاً مجداً مثمراً بناءً، لأنه يعلم أنه أمام سننٍ وقوانين لا تحابي أحداً ولا تستثني فرداً، بخلاف من يُهمل علم السنن ويُغفلهُ ولا يقيم له وزناً فإنك تراه يتبع هواه ويخالف هذه السنن الربانية ويعاندها فيعيش حياة الفوضوية والعبثية والتفريط والتبعية والانهزامية، ثم إذا نزلت به قارعة وغرقت بسببه السفينة قال أنى يكون هذا ( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ).

وبيّن أنّ “كل من أعرض عن سنن العزة والتمكين والحياة الكريمة المباركة فإنه سيُخذل من حيث كان يظن أنه سيوفق وسيهان ويذل من الجهة التي كان يعتقد أنها ستكرمه وتعزه. ولفت فضيلته إلى أن السنن الربانية المثبوتة في الكون والحياة كثيرة جداً ومتنوعة ولقد تحدث القرآن في سور كثيرة عنها وأفاض فيها بأسلوبه المعهود حلاوةً وطلاوةً وتأصيلاً، كما في سورة آل عمران والأعراف والأنفال والتوبة وهود وإبراهيم والإسراء والكهف والنور وغافر وغيرها كثيراً جداً”.

وأردف “تكاثرت النماذج والأمثال النبوية في السنة المشرفة والسيرة العطرة. وأوصى إمام وخطيب المسجد الحرام المسلمين بإتباع كلام الله وسنة نبيه وسيرته المباركة ففيها الهدي التام والنور التام والكمال والجلال والجمال، وأن الموفقُ السعيد من وفقه الله وبصره، وزكى قلبه ونوره، والمخذول المحروم من أعرض عن هدي ربه واتبع هواه، ونسي الله وانفطرت عليه أموره، وخبط في هذه الحياة خبط عشواء فلم يبال الله به في أي أوديتها هلك”.