مشعل بن عبدالعزيز .. القوي المهاب

الإثنين ٨ مايو ٢٠١٧ الساعة ٦:٤٦ مساءً
مشعل بن عبدالعزيز .. القوي المهاب

بقلم : جابر القرني

ذكريات ومشاهد كثيرة تداعت للحال عندما أعلن الديوان الملكي وفاة صاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن عبدالعزيز ــ رحمه الله ــ ، فقد عشت سنوات الطفولة المبكرة بمدينة جدة في كنف الأمير الراحل، عندما كان أميراً لمنطقة مكة المكرمة في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات الهجرية، وكان والدي رحمه الله يعمل في الحراسة العسكرية للأمير . أعوام معدودة قد لا تتجاوز الأربعة كنت أرى بعين الطفل وذاكرته التي ترصد الأشياء وكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة وأسمع الحكايات والقصص وأرى الأمير يوجَّه ويحكم ويجلس للناس .كان والدي رحمه الله قد اختار لنا منزلاً قريبا من قصر الأمير لنكون على مقربة من عمله، وكان بين الحين والآخر يأخذنا لقصر الأمير الواقع على شارع الجامعة، يجاوره قصر شقيقه الأمير متعب بن عبدالعزيز شافاه الله . يتوسط القصرين مسجد كبير(ولازالت القصران والمسجد حتى اليوم من العلامات الفارقة القديمة  على طريق الجامعه – باخشب – بجوار مستشفى الداغستاني)، ولا أنسى ما حييت أنا وشقيقي الأكبر عايض عندما رأينا الأمير لأول مرة في حديقة القصر يسقي الزرع بنفسه، وعظم هيبة الأمير مع بساطة ملبسه وبساطة ما كان يقوم به في تلك اللحظة . ورغم كل ما كان يظهر على حياة الأمير من بساطة في التعامل والتعايش مع كل من حوله، إلا أن شخصيتة الحازمة والقوية وهيبتة الحاضرة دائما كانت العنوان الأبرز والسمة الأوضح حتى لدى أقرب المقربين أبنائه وأسرته ومن يعمل معه،  وأذكر على سبيل المثال لا الحصر أنه كان يحاسب من يتأخر عن الصلاة أو من يقصر في المدرسة حتى أنه ــ رحمه الله ــ قد وجَّه حراسة قصره ، ومنهم والدي ــ رحمه الله ــ أنه بعد صلاة العشاء بساعة، أي في حدود التاسعة مساء تقريباً بعدم خروج أي أحد من أبنائه من القصر، ومن كان خارج القصر لا يسمح له بالدخول حتى يبلّغ هو شخصياً .وكان منطلق هذا التوجه حرص الأمير الراحل على تربية أبنائه تربية سليمة تستند على تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وعلى العادات والتقاليد العربية الأصيلة، ويتضح هذا المنهج فيما كان يقوم به الأمير مشعل من تعليمهم الرماية ــ على سبيل المثال ــ وإقامة المسابقات بينهم في علوم القرآن والسنة والآدب والشعر ، وكان بأبوته وعطفه يشرك أبناء العاملين معه في تلك المسابقات ويوجههم بنفس التوجيه ويعاملهم ذات التعامل، ويمنحهم ذات الجوائز والحوافز التي يمنحها لابنائه واتذكر هنا جيدا الامراء تركي وعبدالعزيزو بندر، لتقارب السن معهم وكيف عشنا معهم الكثير من تلك اللحظات وتلك الاجواء .كما أذكر قصة أحد من كان يعمل مع سموه ــ قهوجي من الجنسية اليمنية ــ وكان قد بدر منه خطأ استلزم أن يعاقب بالسجن، وبعد فترة أصيب بمرض نقل على إثره من السجن إلى المستشفى، وما إن علم الأمير مشعل إلا وهو يزوره بنفسه في المستشفى مطمئناً على صحته . فمع صرامته وأداء ما تمليه عليه الأنظمة ووجوب احترامها وتطبيقها على الجميع، إلا أن إنسانية الأمير وقيمه وشهامته وإخلاقياته كانت حاضرة دائماً وأبداً، وكان حريصاً على تعزيزها في نفوس أبنائه وجلسائه ومن يعمل معه . وقد كان الأمير الراحل عظيم الاعتزاز والافتخار بوالده المؤسس جلالة الملك عبدالعزيز ــ طيب الله ثراه ــ متحدثاً بإسهاب عن مآثره ومناقبه وصفاته، وما كابده وعاناه في سبيل توحيد وتأسيس المملكة .
كان الامير الراحل يذهب مبكراً كل صباح لمزاولة عمله في الإمارة، وكان يجلس للناس بعد صلاة المغرب، حيث يقصده كبار المسؤلين والوجهاء والأعيان وعامة الناس ممن لديهم مظلمة أو طلب أو حاجة، تأسياً بالنهج الذي زرعه الملك عبدالعزيز ــ رحمه الله ــ في أبنائه وضرورة قربهم من الناس والحرص على خدمتهم ، وكنت أسمع كيف أن هيبة الأمير مشعل وصرامته لها وقعها في نفوس الجميع، فلا يقوم شاكي أو متظلم برفع شكواه  دون بينة واضحة، فالأمير سيقتص له وينصفه دون شك إن كان صاحب حق، لكنه في ذات الوقت لن ينجو من العقاب الصارم والمحاسبة إن كانت دعواه باطلة .وأذكر إنني سألت والدي ــ رحمه الله ــ الذي عمل في إمارة منطقة مكة نحو ثلاثين عاماً : بماذا تميز الأمير مشعل ؟ قال بثلاث صفات، الشجاعه والقوة والهيبة .وذكر لي والدي قصة في هذا الجانب وهو عندما كان الأمير الراحل عائداً من مكة الى جدة في وقت متأخر من الليل، ومعه سيارة دورية واحدة ترافقه، وجدوا عمالة من الأفارقة الأشداء تسرق الماء في ناقلات كبيرة ( وايتات ) من الخزانات التي على طريق مكة القديم، وكان عدد العسكريين في الدورية اثنين وسائق سيارة الأمير الذين  اشتبكوا في نزال غير متكافئ مع نحو عشرة من الأفارقة الأشداء، وإذا بالأمير يترجل من سيارته  ويتدخل بنفسه حاسماً الصراع بكل قوة وهيبة.

وأذكر أنه عندما حاول أحد رؤساء الدول الإسلامية أن يستبقي أحد مرافقيه أوسكرتيره(غير مسلم ) في معيته أثناء ذهابه لمكة المكرمة لإداء العمرة بحجة أنه سيبقيه في فندق خارج مكة، وعلم الأمير مشعل، أمر بإيقاف الموكب الرسمي المقلّ للرئيس وإنزال غير المسلم أو يعود الوفد بكامله إلى جدة،  وصعّد الموضوع ووصل إلى الملك الذي أيّد ما اتخذه الأمير مشعل وهو ما تمّ، حيث عاد السكرتير إلى جدة
وبعد ابتعاد الأمير مشعل عن العمل الحكومي كان مُعيناً وقريباً من إخوانه الملوك جميعاً لا يتردد في المساعدة والرأي والمشورة، قريباً من المواطنين حريصاً على التواصل معهم. اهتم بالتراث ودعم السياحة واعتنى بالموروث اعتزازاً وإيماناً بما حبى الله ــ عز وجل ــ بلادنا من مكتسبات عظيمة في مقدمتها الحرمين الشريفين وما يميزها من مقومات ومقدرات حضارية وتاريخية تجعلها مقصداً للعالم أجمع . كما أطلق وأسس ورعى ــ رحمه الله ــ مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل، الذي أصبح سمة تراثية أصيلة ومعلماً له أبعاده ورسالته وأهدافه، وعزّز هذا المهرجان بالمناشط الدينية والتوعوية والثقافية، وجعل منه رافداً تنموياً واقتصادياً للكثير من المواطنين . كما أسند إليه أخوه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ــ رحمه الله ــ رئاسة هيئة البيعة، فكان نعم القوي الأمين مثلما كان في جميع المواقع التي شغلها ومنها وزارة الدفاع والطيران وإمارة منطقة مكة المكرمة، صريحاً واضحاً لا تاخذه في الحق لومة لائم، واضعاً نصب عينيه مخافة الله ــ عز وجل ــ أولاً ثم مصلحة الوطن والمواطن
واختار الله ــ عزّ وجل ــ أن تكون وفاة الأمير مشعل في أغلى البقاع وأعزها وأطهرها ــ مكة المكرمة ــ التي تشرف الأمير بخدمتها حاكماً وأميراً، حيث وافته المنية وصلي عليه في المسجد الحرام وشيع منه ودفن في مكة، وهي كلها نحسبها بإذن الله حسن خاتمة له رحمه الله.
وختاماً، أحرّ التعازي لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ــ حفظه الله ــ ولجميع إخوانه وأخواته والأسرة المالكة الكريمة، وأصدق التعازي للأمراء فيصل ومنصور وتركي وعبدالعزيز وبندر ، وللصديق العزيز الأمير سلطان بن مشعل والأمير سعود وبنات الأمير مشعل وأحفاده.
رحم الله الأمير مشعل بن عبدالعزيز وغفر له وجعل ما قدم لدينه ووطنه في ميزان حسناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون