جريمة اختلاس المال العام.. رؤية سياسية شرعية!

الخميس ٣٠ نوفمبر ٢٠١٧ الساعة ١١:٣٧ مساءً
جريمة اختلاس المال العام.. رؤية سياسية شرعية!

ثمة فروق بين الاختلاس وبين السرقة بالمعنى العام، إنْ في العناصر أو في الأركان، – والأخيرة – تتشكل من فعل مادي، من أجل الاستيلاء على مال منقول، بقصد التملك، شريطة أن يكون الفاعل في عداد العاملين في أجهزة الدولة، وأن يكون محل الجريمة، وهو المال المنقول الموضوع تحت يد المختلس، وأن تتوافر نية الجريمة، وهي قصد تملك المال المختلس. ومن ثم، فإن من اؤتمن على المال العام فأخذَ منه شيئًا، فلا شك أنه معرض نفسه لسخط الله.

كما أنه لا خلاف بين الفقهاء، في أن من أتلف شيئًا من أموال بيت المال بغير حق، كان ضامنًا لما أتلفه، وأن من أخذ منه شيئًا بغير حق لزمه رده، أو رد مثله إن كان مثليًا، وقيمته إن كان قيميًا؛ لأن الأصل في المال العام هو المنع.

واختلاس المال العام جناية في جميع صوره، وهو أشد حرمة من أخذ المال الخاص؛ لأن الاختلاس اعتداء على حقوق المجتمع – كله – وأخذ المال الخاص اعتداء على حق فرد واحد، والمال الخاص له من يحميه، أما المال العام فحمايته مسؤولية المجتمع كله، وبناء على ذلك فعقوبة المختلس تتمثل في استعادة المال من المختلس ما أمكنه، وتعزير المختلس بما يراه الحاكم مناسبًا لما وقع منه، وذلك حسب اجتهاد ولي الأمر في ذلك، فيفعله إذا رأى المصلحة فيه، ويتركه إذا رأى المصلحة في تركه، ولا تخرج عما أمر الله به، ونهى عنه.

كما أنه لا يحتاج في إقامة التعزير إلى مطالبة؛ فيعزر المعتدي، ولو لم يطالب المعتدى عليه، ومرجعه إلى اجتهاد ولي الأمر، حيث كانت الجرائم تتفاوت في الشدة، والضعف، والكثرة، والقلة، وذلك صيانة للمجتمع من الفوضى، والفساد، ودفعًا للظلم وردعًا وزجرًا للعصاة وتأديبًا وتهذيبًا وتخويفًا لهم.

من جانب آخر، فإن شروط إقامة حد السرقة، وقطع يد السارق، أن يكون أخذ المال على وجه الخفية، فإن لم يكن كذلك فلا قطع، فالمنتهب على وجه الغلبة، والمغتصب، والمختطف، والخائن، لا قطع عليهم، لقصور شرط الحرز، لقوله صلى الله علَيه وسلم “ليس على خائن، ولا منتهب، ولا مختلس قطع”، والحكمة في هذا التفريق في حكم القطع، بيَّنها القاضي عياض  كما نقله النووي في شرح مسلم فقال: “صان الله – تعالى – الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرقة، كالاختلاس، والانتهاب، والغصب، لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة، فإنه تندر إقامة البينة عليها، فعظم أمرها، واشتدت عقوبتها، ليكون أبلغ في الزجر عنها”.

والسبب في عدم قطع السارق من المال العام عند الجمهور، هو شبهة الملك، والحدود تدرأ بالشبهات، وقد اشترطوا في القطع ألا يكون للسارق في المسروق ملك، ولا تأويل الملك، أو شبهته، وقد قال ابن قدامة في المغني “لا قطع على من سرق من بيت المال إذا كان مسلمًا، ويروى ذلك عن عمر وعلي ـ رضي الله عنهما وبه قال الشعبي، والنخعي، والحكم، والشافعي، وأصحاب الرأي”.

وفي المقابل، فإن التعزير مشروع لكل ما لم يعين الشارع له عقوبة مقدرة، وتُرك للحاكم أن يقدر له عقوبة، ويرجع فيه إلى اجتهاده فيما يراه، وما يقتضيه حال الشخص، وما يستوجبه واقع الجريمة، وواقع وضعها في البلد، والمستنبطَة من أحكام، ومبادئ شريعة الإسلام.

ومهما يكن من أمر، فإن عقوبة التعزير حين تقدر، لا تخرج عن أن يكون ذلك الفعل فرضًا، أو يكون حرامًا، وعلى ولي الأمر – حينئذ – أن يقدر عليها عقوبات التعزير، لأنها – كلها – معاص، إذ ترك الفرض، وفعل المحرم، كل منهما معصية، تجب العقوبة عليهما، من أجل حفظ نظام الحياة الإنسانية، وتحقيق أهدافها الحضارية.

بقي القول إن المال العام تتعلق به ذمم جميع أفراد الأمة، وصور الاعتداء عليه ألحقت بالناس خسائر فادحة، وخللًا في استقرار المجتمعات، بل هي من أخطر القضايا التي تهدد الأمن – الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، كونه حقًا لمجموع الناس وباعتبار أنّ المال العام عند الفقهاء ملك للمسلمين، بل جعله بعض العلماء بمنزلة مال اليتيم في وجوب المحافظة عليه، وشدة تحريم الأخذ منه، وحمايته تكون – حينئذ – فريضة شرعية، ومسؤولية فردية، وجماعية لكثرة الحقوق المتعلقة به، وتعدد الذمم المالكة له – ولذا – فإن ضعف القيم الإيمانية، والأخلاقية، والجهل بفقه حرمة المال العام، والتقصير في حمايته، من الأسباب الرئيسة المؤدية إلى الاعتداء على المال العام، وحين يتجرد هؤلاء من إنسانيتهم، وينخلعوا من وطنيتهم، فلا تسل – بعد ذلك – عن سرقة الأموال الطائلة، ونهب المرافق العامة، والاعتداء على الأراضي الشاسعة.

ولك أن تتخيل أخي القارئ: كيف لو وظفت هذه الأموال في التنمية الحقيقية، لتحققت مكاسب كبيرة في تنمية الإنسان، والوطن ؟. وأملنا كبير في قرارات مكافحة الفساد الأخيرة في السعودية  والتي ستكون رافدا مهما في الرقابة على المال العام، وستضيق الخناق على المعتدين، وستخفض مقدار الهدر المالي، وهي خطوة – بلا شك – ستجعل المجتمع واعيًا لحقوقه، ومدركًا لمسؤولياته.

[email protected]

تعليقك على الخبر
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني | الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق
الاسم
البريد الإلكتروني

  • ابوتالين

    أتمنى ان يكون كل موطن لديه حب لوطنة وتقديم المصلحة العامة على الخاصة
    تحياتي لك محب لوطنه

  • عبدالله السعد

    طرح مميز دكتور لكن لوطبقنا هذه العقوبات تطبيقا قويا وشديدا وأرجعنا المال المختلس إلى بيت المال لما كثرت جرائم الاختلاس والاعتداء على المال العام ولا تجرأ احد عليه وهي مرحلة جديدة نعيشها اليوم بدماء جديدة وعهد جديد.