طفلة سان فيليبو!

الأربعاء ١٨ أبريل ٢٠١٨ الساعة ٩:٠٢ مساءً
طفلة سان فيليبو!

دَخَلَت عيادة الفحص طفلة في السنة الرابعة من عمرها برفقة أمها، ودون أي مقدمات، باشرت الأم بذكر المتلازمة التي تُعاني منها طفلتها، والمسمّاة بمتلازمة سان فيليبو!

متلازمة سان فيليبو شديدة الندرة، وكثيرًا ما تسقط سهوًا من مناهج الطب الكثيفة لندرتها، وكأن مسيّر القدر أجّل معرفة هذه المتلازمة إلى هذا اليوم حتى يكون درسًا تطبيقيًّا قُح، لنحاول تدارك الموقف بسرعة البرق بحثًا عن مرجع علمي يفصّل هذه المتلازمة النادرة!

على إيجاز، توصلنا إلى أن هذه المتلازمة النادرة هي مرض وراثي يحرم الجسم من قدرته الطبيعية على كسر جزيئات السكر، ليتسبب ذلك في تراكم خلايا الجسم حتى الوصول إلى الضرر الذي يتصاعد خطره مع نمو المريض، لتبدأ أعراض تشوهات العظام وضعف السمع إلى انعدامه، إضافة إلى الإعاقة العقلية والاضطراب السلوكي، فتضخّم الكبد والطحال حتى الوصول في الحالات المتقدمة إلى الوفاة. والمؤسف في العديد من المتلازمات أنه لا علاج مباشر لها!

بدأنا بالأسئلة الروتينية، فسألنا الأم: هل تعاني طفلتك من أي مشاكل في القلب؟ جاء الجواب بعد صمت مهيب: “إذا ما فيها اليوم، فهو بيجيها بكرى”، قالت ذلك بنبرة يحيطها الأسى وبأملٍ مكسور!

تجاوزنا اللحظة، وحاولت الاقتراب لفحص الطفلة، ولأنها طفلة، كنت حريصًا على أن أكون طفلًا معها وأعاملها بما تستحق كسائر الأطفال الآخرين؛ خوفًا من أن أشعرها أو أشعِر الأم بأن طفلتها مختلفة عن غيرها، إلا أن بكاء الأم قد داهَم اللحظة، وهي تقول: لا تبذل مجهودًا في تعاملك، فهي ليست كالأطفال الطبيعيين، لا هي تفهمك، ولا تعي بوجودك، ولن يتحرّك شيء بمجهودك معها قيد أنملة!

كابَرت على قولها، وأصرّيت على لطف التعامل مع طفلتها، حتى أحكمت الطفلة فمها لا إراديًّا على يدي أشد إحكام، لتبدأ سلسلة اعتذارات الأم اعتذار المجرم التائب عن جرم طفلتها كما تظن، ولا تعلم بأن الاعتذار كل الاعتذار يجب أن يوجه لها بعد أن عجز الطب عن التوصّل لعلاج طفلتها ومئات المرضى الذين يشتركون معها هذه العلّة حول العالم!

كان هذا الموقف درسًا مجانيًّا يصوّر كيفية أن تُنجب طفلًا بمرض نادر، لا يشترك به سوى أعداد محدودة على أرض هذه المعمورة، مرض لم يُخلق له حتى ساعتنا ترياق يداويه، مرض لا يجعلك تستريح ساعة زمن، مرض يجعلك تركض بطفلك كل نهار ومساء بين أروقة المستشفيات، محاولًا تثبيط عَرَض جديد من بين الأعراض العشريّة التي تستجد لطفلك كل فترة، مرض يجعلك تُصبح في كل يوم على تغيّر مخيف في طفلك، مرض يجعلك تقف على أبواب العيادات من الصباح الباكر حتى آخر النهار بحثًا عن نظرة خاطفة من طبيب متعجّل، علّه يعرف ما لا يعرفه غيره من الأطباء، عن ترياق مختبئٍ في بطن حوت يقطن في أعماق المحيطات، مرض يجعلك تعرف أن الأم وحدها من تقف مع طفلها حتى الرمق الأخير، حينما تتساقط كل سمات الصبر والإصرار والجلادة التي يتظاهر بها بعض الرجال.

غادرت الأم، وفي فمها ماء لو انسكب لعبّر قائلًا: إذا كان الطب قد رفع يديه استسلامًا عن إيجاد علاجٍ لهذه المتلازمات، فتأكد بأن يدي الله قريبة من خلقه لا تعرف شكل الاستسلام!

تعليقك على الخبر
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني | الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق
الاسم
البريد الإلكتروني

  • ام عزام

    الحمد لله كثيرا على نعمة الصحه التي نعيشها .
    ولانعرف قيمتها الا حينا نفقدها