صراعات رجال الدين في إيران تشتعل: إذا لم تكن قادرًا على إدارة الدولة فارحل

الأحد ٢٥ أغسطس ٢٠١٩ الساعة ٩:٢٩ مساءً
صراعات رجال الدين في إيران تشتعل: إذا لم تكن قادرًا على إدارة الدولة فارحل

سلط المعهد الدولي للدراسات الإيراني الضوء على صراعات رجال الدين في إيران، في تقرير بعنوان “اتهامات متبادلة بالفساد”، موضحًا أنه من جديد، يتعرّض صادق لاريجاني رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام ورئيس السلطة القضائية السابق لهجومٍ شديدٍ يطال نزاهته المالية والسياسية، حيث وجّه له آية الله يزدي الاتّهام بالفساد المالي واستغلال النفوذ أثناء لقائه بمسؤولي مركز باسيج أساتذة ونخبة حوزة قُم العلمية يوم 16 أغسطس 2019م. فبعد هجوم حكومة روحاني عليه، واتّهامه بامتلاك حساباتٍ ماليةٍ خاصةٍ يُودع فيها الغرامات القضائية التي يحصّلها الجهاز القضائي من المتقاضين، وهجوم أحمدي نجاد عليه باتهامه باعتقال المواطنين دون وجه حق؛ يأتي الهجوم هذه المرّة من آية الله محمد يزدي الرئيس الأسبق للسلطة القضائية والأمين العام لاتحاد مدرسي حوزة قُم، والأمين العام للمجلس الأعلى للحوزات العلمية.

اتهامات متبادَلة بالفساد:

واندلعت الأزمة بين لاريجاني ويزدي بعد إلقاء يزدي كلمةً في حوزة قُم، انتقد فيها كلًّا من حسن روحاني ولاريجاني ورجل الدين محمد جواد علوي بروجردي.

وانتقد يزدي الثلاثة قائلًا لروحاني: إذا لم تكن قادرًا على إدارة الدولة فارحل، وقال لعلوي: ليس كلّ من كان جدّه مرجعًا صار مرجعًا، فالمرجعية ليست لعبة، لأنّه لكي تصبح مرجعًا يجب أن يؤيد منحك اللقب خمسةٌ من المراجع على أن يكون من بينهم المرشد، لا أن تمنح اللقب لنفسك.

اتهامات يزدي للاريجاني:

وبحسب التقرير، بدأ يزدي اتهامه لصادق لاريجاني بالتصريح بأنّه يضغط على المرشد الإيراني على خامنئي للإفراج عن مساعده أكبر طبري الذي اعتقلوه بتهم الفساد المالي وقال يزدي عن لاريجاني: إنّ أحدهم يقول للولي الفقيه إذا لم تفعل هذا الأمر سوف أذهب إلى النجف. حسنًا اذهب، وهل ذهابك إلى النجف سوف يضرُّ قُم؟ أنت لم تكن مؤثِّرًا في قُم فما بالك بالنجف.

لقد اعتقلوا رئيس مكتبه الذي كان له موقعٌ إداريٌّ مهمٌّ لمدة 10 سنوات، ثم بعد ذلك يعترض لاريجاني ويقول: لماذا قبضتم عليه؟! لقد بنوا قصرًا تحت مُسمّى مدرسةٍ علميةٍ! هل كان هذا المال إرثًا من أبيك؟! من أين حصلت على المال؟!

وحديث يزدي عن فساد أكبر طبري رئيس مكتب لاريجاني، بنفس القدر الذي أضاف إلى سلسلة شبهاتٍ كبيرةٍ تعرّض لها لاريجاني المدعوم بقوةٍ من المرشد وفساد السلطة القضائية على مدار عشرين عامًا مضت؛ فتح الباب أيضًا أمام الحديث عن الفساد المالي للحوزات العلمية التي بات المجتمع الإيراني ينظر إليها على أنّها قصورٌ خاصةٌ برجال الدين، وليست أماكن لتلقي العلوم الفقهية.

وتمّ اعتقال طبري بأمرٍ مباشرٍ من الرئيس الجديد للسلطةِ القضائية إبراهيم رئيسي، بعد أن سارع طبري بتقديم استقالته من منصب مدير عام الشؤون المالية للسلطة القضائية، بعد تولي رئيسي للسلطة القضائية بسبعة أيامٍ فقط. وكأنّ انتقال لاريجاني من منصب رئيس السلطة القضائية لرئاسة مجمع تشخيص مصلحة النظام قد جعل طبري بلا غطاء، وهو مخزن أسراره والقائم على إدارة الأصول المالية للسلطة القضائية لمدة عشرين عامًا متوالية، عُرف عنه الابتعاد عن الظهور في وسائل الإعلام، وقد أنشأ وأدار طبري عددًا من المشروعات الاقتصادية التابعة للسلطة القضائية مثل المجمع الترفيهي السياحي في شيراز، المركز التخصصي لطب الأسنان، مجمع الألعاب المائية في شيراز، وغيرها من المشروعات ذات العائد المرتفع، كما تَشارَك كلٌّ من طبري وباقر لاريجاني أخ صادق لاريجاني، في الإشراف على مشروع بناء مستشفي القضاة.

لكن اتهام يزدي له بالفساد تركّز على بناء مدرسةٍ دينيةٍ في منطقة لواسان الراقية بتكلفةٍ ضخمةٍ، وألمح يزدي إلى أنّها ليست مدرسة، وإنّما هي قصرٌ فخمٌ شيّده صادق لاريجاني بأموال السلطة القضائية، ووجود الطلاب فيه ما هو إلّا تمويهٌ لاستكمال الصورة. واختيار منطقة لواسان يفتح ملفًا أكبر للفساد يطال كلًّا من صادق لاريجاني، وعلى أكبر ناطق نوري الرئيس السابق لمكتب التفتيش التابع للمرشد والرئيس السابق أيضا للبرلمان الإيراني. وقد أُثير ملف فساد فِلل لواسان في عام 2016م عبر الملف الصوتي الذي أذاعه الناشط السياسي رضا جلبور، والذي حُكم عليه بالسجن 15 عامًا بعد تسريباته تلك، حيث كشف عن بناء 62 فيلا بمساحة 2000 متر، وُزِّع معظمها على رجال النظام، وقُدِّمت رشاوى لأكبر ناطق نوري استفاد منها في بناء منزلٍ بمساحة 1100 متر في برج فلورا، وشقة بمساحة 700 متر لعباس جعفر دولت أبادي المدعي العام لطهران في إطار الحصول على موافقاتٍ لتنفيذ المشروع، وكشف فيما بعد أنّ أكبر طبري مدير مكتب لاريجاني هو المنفِّذ لمشروع فلل لواسان.

ردّ لاريجاني على اتهامات يزدي:

وأكد التقرير، أن مكتب رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام أصدر بيانًا رسميًّا للردِّ على اتهامات آية الله يزدي للاريجاني، ونفى لاريجاني أن يكون قد قال إنّه سوف يرتحل للنجف، ونفى كذلك دعمه لأكبر طبري، ولكنّه كال السباب ليزدي كذلك، وقال: أنا لم أقل إنّ وجودي في قُم مهمٌّ، لكن قل لي ما الذي فعلته أنت في مجال التحقيق والبحوث العلمية؟! أنت لم تقم بعمل أيّ بحثٍ علميٍّ، حتى أداؤك في مجلس صيانة الدستور كان غير احترافيٍّ، وكثيرًا ما كنت تضطر للاعتذار، وكان بقية الأعضاء يصمتون احترامًا لكِبر سنّك، وعلى الرغم من صوتك العالي كنت لا تعرف على وجه الدقة حول أيّ شيءٍ يدور النقاش.

حتى الشخص الذي تمَّ القبض عليه مؤخّرًا لم يكن مدير مكتبي، فمدير مكتبي هو السيد خلفي، أما طبري فقد كان المدير التنفيذي لمكتب رئاسة السلطة القضائية، وهو بهذا أحد معاوني السيد خلفي وليس رئيسًا لمكتبي. أما ما يتعلّق بالمدرسة العلمية، وهي مدرسةُ وليّ عصر، هي بالفعل وقفٌ من قِبل والدي آية الله العظمي ميرزا هاشم آملي والذي يدير الوقف حاليًّا هو شخصٌ آخر غيري، وقد طلب ترميم وإعادة بناء المدرسة واستعان في ذلك بأشخاصٍ آخرين.

ثم بدأ لاريجاني في الهجوم على شخص يزدي قائلًا: نعم هذه المدرسة ليست إرثًا لي من والدي، لكن هل المدارس التي تستفيد منها في قُم هي إرثٌ من أبيك؟ وقولك إنّها قصرٌ وليست مدرسةٌ أردُّ عليه بسؤالك: هل قارنتَ بين بناء هذه المدرسة وبناء مركز بحوث مجلس الخبراء الذي حوّلته لمقرِّ إقامةٍ لك أثناء فترة رئاستك للمجلس؟، ثم انتقد لاريجاني أداء السلطة القضائية قبل توليه إياها عندما قال: لقد تمَّ الفصل في 17 مليون قضية في عام 2018م فقط.

أسباب اندلاع الأزمة:

وبحسب التقرير، تُشكّل أسرة لاريجاني بقطبيها صادق وعلي حالةً من احتكار السلطة داخل النظام الإيراني تثير سخَط وغضب المحافظين والإصلاحيين على السواء، بسبب الدعم اللانهائي الذي يحصلون عليه من قِبل المرشد الإيراني على خامنئي، على الرغم من الاتهامات المتكرِّرة لهم بالفساد واستغلال السلطة.

وعلى مدار عشرين عامًا متوالية لا يترك الواحد منهم منصبًا إلّا ليتبوأ منصبًا أعلى منه، فصادق لاريجاني في عمر الثامنة والثلاثين حصل على عضوية مجلس الخبراء، وبعد عامٍ آخر حصل على عضوية مجلس صيانة الدستور بقرارٍ من المرشد، ولم يكد يصل للخمسين من العمر حتى عيّنه المرشد رئيسًا للسلطة القضائية، ثم عيّنه في 2018م رئيسًا لمجمع تشخيص مصلحة النظام مع الاحتفاظ بعضوية مجلس صيانة الدستور. وعلى الرغم من أهمية المناصب التي شغلها صادق، لكن شقيقه علي يمثّل حالةً فريدةً في النظام الإيراني لشغله منصب رئيس البرلمان الإيراني منذ عام 2008م وحتى الآن لثلاث دوراتٍ متتالية، بعد حصوله على المقعد البرلماني الخاص بمدينة قُم، فضلًا عن عددٍ من المناصب الحكومية الأخرى بعد تقاعده من الحرس الثوري برتبة عقيد، مثل رئاسته للمجلس الأعلى للأمن القومي وعضوية المجلس الأعلى للثورة الثقافية ورئاسته لهيئة الإذاعة والتلفزيون وتوليه وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي.

فضلًا عن تعدّد المناصب التي تولاها الأخوان لاريجاني دائمًا ما كانت شبهات الفساد المالي محيطة بهم، ودائمًا ما كانوا يلقَون دعمًا وتأييدًا من المرشد على خامنئي حتى لو كان الأمر مثيرًا لاستياء وحنق النخبة الحاكمة والشعب الإيراني على السواء. ففي أثناء الدورة السادسة للبرلمان الإيراني والتي كان الإصلاحيون يشكّلون الأغلبية فيها، رُفعت تقاريرٌ لرئاسة المجلس عن الفساد المالي بهيئة الإذاعة والتلفزيون التي كان يتولى رئاستها على لاريجاني.

ورفض مجلس صيانة الدستور التحقيق في الأمر بعد رفع الطلب من البرلمان وأعلن صراحةً أنّ المرشد يرفض إجراء التحقيق، وبعد ضغطٍ شديدٍ من البرلمان، وافق المرشد على إجراء التحقيق، وكانت نتيجته الكشف عن اختلاساتٍ بلغت حينها 5250 مليار ريال أي 262 مليون دولار باحتساب سعر العملة الحالي، وذلك بعد فحص خمسة حساباتٍ بنكيةٍ فقط باسم هيئة الإذاعة والتلفزيون من إجمالي 200 حسابٍ بنكيٍّ للهيئة. حينها استهزأ علي لاريجاني من نتائج التحقيق وقال عنها إنّها مجرد كلامٌ فارغٌ، ولم يترتّب على التحقيق أي قرارٍ لا من قِبل السلطة القضائية ولا الحكومة الإيرانية، وبقيت أسرة لاريجاني تتولّى المنصب دون الآخر نكايةً في الجميع.

وأكد التقرير أنّ فساد أسرة لاريجاني ودعمهم من قِبل المرشد ليس بجديدٍ، ومعروفٌ داخليًّا وخارجيًّا، حتى أنّ الاتحاد الأوروبي أصدر في عام 2012م عقوباتٍ بحقِّ صادق لاريجاني تقضي بمنعه من دخول الدول الأوروبية وتجميد أرصدته بسبب انتهاكه الشديد والموسّع لحقوق المواطنين الإيرانيين، لكن لعلّ الدافع وراء هجوم آية الله يزدي على صادق لاريجاني، هو الأحاديث الدائرة في أوساط الحوزة وبيت المرشد عن التمهيد لترتيبات إعداد صادق لاريجاني لتولي منصب المرشد على المدى البعيد، فضلًا عن هندسة انتخاب علي لاريجاني كرئيسٍ للجمهورية في انتخابات عام 2021م.

تداعيات الأزمة:

أحدثت الأزمة بين يزدي ولاريجاني أصداء واسعةً في إيران وخارجها، فالطرفان رئيسان سابقان للسلطة القضائية، ومن المفترض فيهما عدم الكذب والافتراء على الأقل لدى الرأي العام الإيراني، فإذا بهما يكيلان لبعضهما اتهاماتٍ بالفساد المالي والجهل وعدم الفقاهة، على الرغم من ارتفاع درجتيهما الدينية واعتبارهما مجتهدين يتبعهما الآلاف من الشيعة الإيرانيين، وبالتالي يُطرح تساؤلٌ حاسمٌ أمام الرأي العام الإيراني، أيهما كاذبٌ وأيهما صادقٌ، أم أنّ كليهما صادقٌ وتثبت تهم الفساد والجهل عليهما؟ لا شكّ أنّ الأزمة تخطّت حدود الخلافات الشخصية ووصلت إلى حدِّ تقييم رجال النظام وأدائهم، وسيكون للأزمة تداعياتٌ على النظام والدولة الإيرانية منها:

1- تراجع مكانة رجال الدين في إيران:

سعى النظام الإيراني منذ قيامه إلى خلق صورةٍ ذهنيّةٍ في العقل الجمعي الإيراني عن رجل الدين في إيران، مكونةٌ من عناصر الزهد وحياة التقشّف، ومجابهة الظلم ونصرة المستضعفين، وعدم موالاة الحكام داخليًّا وخارجيًّا. وشكلّت الوصية السياسية للخميني، أحد النصوص المؤسِّسة لهذه التصوّرات، والتي دعت للحفاظ على هيبة ومكانة رجل الدين داخل نظام الجمهورية الإيرانية. وأنشأ النظام الإيراني المحاكم الخاصة برجال الدين بهدف المحافظة على هذه الصورة عبر ردِّه رجال الدين عن الإتيان بالأفعال التي تضرُّ بتلك الصورة النمطية. لكن هذه الصورة ظلّت تتآكل على مدار الأربعين عامًا الماضية بفعل الكشف عن ملفات الفساد المالي والإداري والأخلاقي، فضلًا عن نمط الحكم الديكتاتوري الذي ظل خامنئي يعمل على تعميقه وترسيخه على مدار 29 عامًا من توليه منصب الإرشاد.

فساد رجل الدين:

في البداية، كان الكشف عن فساد رجال الدين يتمُّ على يد المعارضين في الخارج. ومع ظهور التيار الإصلاحي وتوليه رئاسة السلطة التنفيذية بتولي محمد خاتمي رئاسة الجمهورية في عام 1997م، بات الكشف عن فساد رجال الدين يظهرُ من الداخل أيضًا، لكن على يد رجال التيار الإصلاحي وهم في الأغلب ليسوا برجال دين. ثم جاءت مرحلة أحمدي نجاد الذي هاجم فساد الراحل هاشمي رفسنجاني علانيةً، وبعض رجال الدين الآخرين ممن عُرفوا بالمحافظين التقليديين، وبعد ابتعاد أحمدي نجاد عن دوائر الحكم شنَّ هجومًا حادًّا على الأخوين لاريجاني مُتهمًا إياهما بالفساد المالي والسياسي وكبت الحريات والاعتداء على المواطنين.

ووجّه رسالةً علنيةً للمرشد الإيراني مطالبًا إيّاه بكفِّ أيدي الأخوة لاريجاني عن المواطنين، وذلك من داخل ضريح الشاه عبدالعظيم ذو المكانة الروحية العالية لدى الإيرانيين والذي دائمًا ما يلجأُ إليه الإيرانيون للشكوى ممن ظلموهم. لكن الأزمة بين آية الله يزدي وصادق لاريجاني اتخذت طابعًا جديدًا لم يحدث من قبل في النظام الإيراني، إذ تبادل اثنان من رجال الدين الاتهامات بالفساد المالي واستغلال النفوذ، فضلًا عن الجهل وعدم التمكن من العلوم الفقهية.

ولا شك أنّ ما حدث كشف عن قدرٍ كبيرٍ من الفساد المستشري في النظام الإيراني أمام الشعب وحتى بين القطاعات المؤيّدة للنظام، فكلاهما من رجال حوزة قُم، وكلاهما شغل، ولا زال، أرفع المناصب في النظام السياسي والحوزة، فكيف يمكن الوثوق بالنظام على المستوى الشعبي بعد كل هذه الفضائح وملفات الفساد التي تمَّ الكشف عنها.

2- الإضرار بالاستقرار السياسي للنظام:

لا شكّ أنّ الأزمة قد ألحقت ضررًا فعليًّا بالاستقرار السياسي للنظام، فطرفاها من الشخصيات ذات الثِقل السياسي الكبير، ولهما تأثيرٌ واضحٌ على عددٍ من التيارات السياسية الفاعلة في النظام. لكن تقييم قدر هذا الضرر يتوقّف على المسارات التي سوف تتخذها الأزمة في الأيام المقبلة، والتي لا شكّ سوف تتأثّر إلى حدٍّ كبيرٍ بموقف المرشد وتصرفات طرفي الأزمة، ويمكن تقييم حجم الأضرار بالاستقرار السياسي للنظام عبر افتراض ثلاثة مساراتٍ للأزمة وهي:

أ‌- خيار التصعيد:

يبدو أنّ خيار التصعيد لا زال واردًا بين الطرفين ومن الممكن أن يُصدِر الطرفان المزيد من البيانات التي تفضح قدرًا أكبر من ملفات الفساد الخاصة برجال الدين والنظام في إيران، لأنّه ورد في البيان الذي صدر عن لاريجاني تلميحًا بذلك، فقد قال: إنّ صدره خزانة أسرارٍ مليئة بالاتهامات لمجموعةٍ من المسؤولين والشخصيات المهمة وأبناء السادة. وألمح لاريجاني إلى أنّه يعتقد أنّ هناك مخططًّا لتشويهه يقف خلفه كلًّا من محمد باقر قاليباف عمدة طهران السابق وقائد القوات الجوية التابعة للحرس الثوري، وحسين طائب رئيس جهاز استخبارات الحرس الثوري الحالي، وقال لاريجاني: إنّ مساعدي هذين الشخصين قد حُكم عليهم في جرائم مالية.

كما أنّ يزدي تعرض لهجومٍ شرسٍ من لاريجاني، حيث اتهمه بالفساد وبالجهل وعدم الفقاهة، ومعروفٌ عن يزدي شدّة اعتداده بذاته واندفاعه في كيل الاتهامات للآخرين دون حساب. من ناحيةٍ أخرى يمكن أن يدخل إبراهيم رئيسي على الخط ويفتح تحقيقًا في الاتهامات المُتبادلة بين الطرفين باعتباره رئيس السلطة القضائية الحالي، لكن إقدام رئيسي على هذه الخطوة مستبعدٌ؛ نظرًا لتبعيته الشديدة للمرشد والذي لا شكّ لن يرغب في تقويض أركان النظام عبر استهداف رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام المقرّب إليه. ومع هذا يمكن توقُّع ألّا تكون هذه هي الجولة الأخيرة بين يزدي ولاريجاني ما لم يتم احتواءُ الأزمة من خلال المرشد وكبار مراجع قُم.

ب‌- خيار استمرار الأزمة:

لم يمنع خامنئي، صادق لاريجاني من الردِّ على يزدي، ولم يصدر عنه بيانٌ بطلب وقف الهجوم المتبادل بينهما، لكن من داخل الدائرة المحيطة بخامنئي صدر هجومٌ على آية الله يزدي حيث أعلن آية الله كريمي رئيس مجلس استفتاءات المرشد: إنّ السيد يزدي يصطدم في كلِّ يومٍ بأحد. بالأمس كان هاشمي رفسنجاني واليوم صادق لاريجاني. كما رفض قول يزدي بأنّ روحاني غير جديرٍ بإدارة الدولة أو يكون على خلافٍ مع خامنئي، وقال: لو كان لدى المرشد بطلٌ فدائيٌّ فهو بلا شك حسن روحاني.

أما حديث يزدي عن استبعاد روحاني، فقال عنه: هي مسؤولية البرلمان وليست مسؤوليته ولا صلاحيته، كما أنّ اتهامات يزدي للاريجاني لا أساس لها من الصحة.

بناءً على ما سبق، يمكن تصوّر خيار الرغبة في استمرار الأزمة بعض الوقت، ولعلّ ذلك راجعٌ إلى إمكانية استثمار الأزمة من خلال الاستفادة من انقسام مواقف رجال الدين حول طرفيها، وذلك بهدف استيضاح أيٍّ من رجال الدين أكثر فهمًا وطواعيةً لمحدِّدات المرحلة المقبلة، والتي لا شكّ تميل مؤشراتها لصالح أسرة لاريجاني بسبب الدعم المطلق من قبل المرشد لها.

وبالتالي تصبح الأزمة أداةً لتدجين الحوزة وجعلها أكثر طواعيةً للنظام أكثر مما هي عليه الآن، والقيام بعملية تبرئة مُمنهجة لصادق لاريجاني من جميع التهم السابقة والإقرار بنزاهته المالية والسياسية بعد عملية تمحيصٍ تنتهي بإقرار الجميع بنزاهة المرشّح الجديد لمنصب المرشد. وعلى الرغم من اعتقاد البعض أنّ كثرة التهم المحيطة بلاريجاني يمكن أن تجعل فُرصَه في تولي منصب المرشد ضعيفة، لكن ضعف مكانة خامنئي في أواخر أيام عُمر الخميني لم تحُل دون توليه منصب المرشد، ومن ثَمَّ لا يمكن استبعاد أن يكون لاريجاني هو المرشد القادم.

ج- خيار التهدئة وحلّ الأزمة:

أعرب رجال الدين في إيران عن استيائهم لعلنية الخلاف الذي نشب بين كل من يزدي ولاريجاني، لما تشكّله هذه الأزمة من إضرارٍ بمكانة رجال الدين في المجتمع الإيراني، ولذا سارع عددٌ منهم إلى الدعوة لوقف الاتهامات المُتبادلة بين الطرفين. وكان آية الله جنتي أول من دعى لذلك باعتباره رئيس مجلس صيانة الدستور الذي يضمُّ في عضويته كلًّا من يزدي ولاريجاني. وقد أثنى جنتي على كليهما وذكر تاريخهما في خدمة النظام وقال: قريبًا سوف يراهم الجميع إلى جوار بعضهما.

ويبدو أنّه على الرغم من قوة الاحتمالين السابقين، إلّا أنّ خيار التهدئة وحلّ الأزمة هو الأقرب للتحقق نظرًا لما يمرُّ به النظام الإيراني حاليًّا من تصاعد المواجهة مع الولايات المتحدة، وما تبعها من أزمةٍ اقتصاديةٍ خانقةٍ، وترقّبٍ لانهيار الاتفاق النووي. فضلًا عن أنّ الأهداف التي يمكن تحقيقها في الخيارين السابقين سواء للنظام أو شخص طرفي الأزمة عالية التكلفة، ويمكن تأجيل تحقيقها إلى وقتٍ آخر، خاصةً وأنّ إيران على أعتابِ استحقاقٍ انتخابيٍّ برلمانيٍّ في مايو القادم، ولا شكّ أنّ تلك الاتهامات المُتبادلة والمتوالية بالفساد سوف تضرُّ بالتيار المحافظ والنظام السياسي الإيراني ككل.