زواج المكفوفين : أمل ورسالة

الجمعة ٢٠ مايو ٢٠٢٢ الساعة ٢:٤٣ مساءً
زواج المكفوفين : أمل ورسالة
عبدالله الكرشم عسيري

قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال «إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه فَصَبَرَ عوضته عنهما الجنة».

الكفيف والزواج مرارة شديدة، وواقع مؤلم وحق ضائع بين جهل الجاهلين، وقلة المناصرين، وحياء أصحابه في الإصرار عليه.

وليس منا مَن اشترط على الله لنفسه أن يخلقه كما يشاء، فالله يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة، وليس منا أمام الله إلا وهو عبد له، جميعنا سواء، سواسية كأسنان المشط.

وإذا كان الإنسان قد حرمه الله من نعمة البصر فهل حرم عليه أن ينعم بأطفال مبصرين؟ يرونه ما حوله ويحمونه من شر ما لا تراه عينه ويصل بهم ربه إذا انقطع به عمله، ألم يشرع الله له من الاحتياجات ما شرعها لغيره؟ فجعل له قلبًا يحب ونفسًا تشتهي.

فمن ذا الذي ألّه نفسه من دون الله إلهًا على الأرض؟

فأباح وحرم وأعطى ومنع، وهل يستباح للكفيف الزنا وللكفيفة البغاء حتى يهدأ فيهما إلحاح الرغبة وصرخات الاحتياج، وهل اشترط الإسلام في كفاءة المرأة أن تتزوج أن تكون مبصرة أو الرجل أن يكون بصيرًا، وماذا لوكان ولدك كفيفًا أو ابنتك كفيفة؟ أكنت تهنأ عيشًا وأنت ترى زهرة قلبك تصرعها العنوسة وتزهدها النفوس.

إن مجتمعًا يشعر فيه الكفيف باليأس أن يجد شريكًا له يكمل دينه ويؤنس وحدته ويصل نوعه ويعينه على تحقيق ذاته، إلا أن يكون بطيء الفهم أو دميم الوجه أو سيئًا

لهو مجتمع فارغ المعنى لا قيم فيه ولا حياة له، إن الله تعالى قدره وجل ثناؤه لم يخلق الكفيف ليصب عليه غضبه أو ينزل به سخطه، وما كان تبارك اسمه وجلت صفاته ليفعل ذلك بأوليائه وصفوته من الخلق.

إنما الكفيف مودة بينكم وصلة ربكم ورجل من أهل الجنة ترونه وتسمعونه كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي «إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه فَصَبَرَ عوضته عنهما الجنة».

ولكن: ما الذي يدفع الناس إلى هذا الصدود إذا الكفيف عندما يتقدم خاطبًا ابنتهم المبصرة؟ أو يرغب ولدهم في الزواج من كفيفة؟ إذا الدين لم يمنع ذلك.. أو إذا لم يكن في الكفيف ما يخل بشرط الكفاءة.. أو إذا كان هناك قبول من الجانبين.

‏حقًا ما الذي يدعو إلى الرفض إذا توفر ذلك؟ من حق أي انسانٍ على هذه الأرض أن يحلم ويخطط لحياته ومستقبله منذ نعومة أظفاره، وأن يرجو حياةً مستقرةً تعينه على العطاء الإيجابي في مجتمعه.

أن يختار دراسته الجامعية ووظيفته بما يتناسب ومؤهلاته، ثم يختار شريك حياته كما كان يحلم ويتمنى وبالشروط التي وضعها لنفسه لأنه الأعلم بما يسعده ويريحه بناء على قدراته وما يتمتع به من مزايا وأخلاق تجعله قادرًا على الاختيار وإسعاد من يختاره كل هذه الحقوق هي للجميع نظريًا، ما دمنا ننتمي لمجتمعٍ له حقوقه وعليه واجباته، لكن يبدو أن الأمر ليس كذلك في الواقع؛ إذ تُمْنَع فئةٌ دون غيرها من تحقيق أحلامها في كثيرٍ من المجالات ما يهمني منها هنا هو مجال اختيار شريك الحياة، وما يهمني من هذه الفئات في هذا المقال هم المكفوفون.

فرغم الإمكانات التي يتمتع بها جزءٌ ليس بالقليل منهم مازالت النظرة لهم ناقصة حين يتعلق الأمر بالزواج.

فينسى كثيرون أن جزءًا كبيرًا من المكفوفين أنهوا دراستهم الجامعية ووصلوا لما هو أعلى من درجة البكالوريوس، وعملوا وتميزوا في أعمالهم وأثبتوا جدارتهم التي لا تقل عن نظرائهم ممن يعملون معهم في المجالات نفسها، وأن كثيرًا منهم يمتلكون مواهب وإنجازات في مجالات متعددة كالمجال الرياضي والمجال الإعلامي والتقنية والبرمجيات والحاسوب والهندسة الصوتية والخطابة وغيرها من المجالات التي برعوا فيها وتميزوا، إضافة إلى قدرتهم على التعامل مع غيرهم بشكلٍ راقٍ ومتميز لقد حرم الله هؤلاء نعمة البصر، لكنه أعطاهم بصيرة تفوق غيرهم في كثيرٍ من الأحيان، حرمهم رؤية الأشياء بأعينهم، فوهبهم قلوبًا متفتحة تلامس مواطن الجمال وتستمتع بها وتنقلها لغيرها، منحهم قدرةً على منح السعادة لغيرهم، ولا أقول هذا من باب التنظير، بل عن تجربةٍ حقيقية عشتها مع المكفوفين كانت من أميز التجارب حتى فاقوا مبصرين في مواهبهم وقدرتهم على التفكير السليم والإحساس بكل ما حولهم، ونهمهم للقراءة وحبه للعطاء، فكانت تجربةً ناجحةً بكل المقاييس، علمتني الكثير من أمور الحياة وجعلتني أكثر نضجًا وسعادة.

ما جعلني أكتب اليوم عن زواج المكفوفين، هو اتصالٌ هاتفيّ مفاجئٌ من أحد المكفوفين الذي حاول مرارًا أن يتزوج من مبصرةٍ من غير جدوى، رغم أنه متفوقٌ في مجاله العملي والعلمي ويمتلك شهادة جامعية ويتمتع بلباقةٍ في الحديث لمستها منذ بداية اتصاله الهاتفي، إذ تقدم بشكل رسمي لأكثر من فتاة للزواج، وفي كل مرة يكون سبب الرفض هو كف بصره، بعد أن يثني أهاليهن على خلقه ومثابرته، شخص كفيف خذلته عصاه البيضاء التي لطالما ثبتت خطاه في الأماكن المناسبة، فسقط على الأرض سقطة حزت في نفس كل من رآه على مدى الشارع الطويل، وهرع الكل لمساعدته على النهوض، إلا أنه لم ينتظر مساعدتهم بل نهض مسرعًا وأكمل هرولته نحو المسجد الذي اعتاد على إقامة الصلاة فيه، ولم تمنعه ظلمة الفجر ولا ظلمة عينيه ولا تغير الفصول ببردها القارس وحرّها الشديد من إقامتها كما اعتاد.. أي إرادة هذه التي تجعل من موانع الحياة مسببات ومحفزات تقودنا نحو غاية روحية لا مادية؟ أيعقل أن يستمد هذا الكفيف قوته وعزيمته من معيقات يتحجج بها من يتسرّب النور لحدقته كل يوم؟

لا عجب أن زوجته الجميلة، المثقفة والمتدينة اختارته من بين جميع الخطاب الذين تقدموا لها وتمنوا وصالها.. فضّلته عنهم كلهم فطعن الجميع في أخلاقها وتشككوا في مبادئها.. اعتقدوا أن فتاة في مثل جمالها لا يمكن لها أن تختار العيش مع كفيف، إلا إذا كانت تُبطن أسبابًا قاهرة تجعلها تخشى اختيار رجل سليم البدن، وتضطرها للتنازل متزوجة (بأعمى) في نظرهم، وفي نظرها تنازلها الوحيد كان عن الحياة وملذاتها الفانية، وكانت واعية للدرجة التي أيقنت فيها أن حياتها ستكون أكثر سعادة، وكينونتها أعمق تقديرًا عندما تصبح بين يدي هذا الشاب المتدين في مرحلة وجيزة جدًا عوضته عن جميع ما مر به من صعوبات، إضافة إلى ذلك غيرت حياته.. لم يشعر يومًا أنها تشفق عليه أو تحسن إليه، بقدر ما كانت تعتبره زوجًا كفؤًا لها، أتم مشواره العلمي بتفوق اختارها الجميع لجمالها، فاختارت من لا يبصر ظاهرها ويتبصر جوهرها الأصيل، فيقدر شخصها وحسن أخلاقها، وما خابت أبدًا في اختيارها، رغم أن أسرتها اعتبرت زواجها من أعمى قيدًا لها اعتقادًا منها أنها سوف تلازمه حيثما حل وارتحل، وهذه عقلية غير سليمة لأنها تلغي المقاصد السامية للزواج، والمجتمع يجب أن يعي هذه الأمور، فلم تقف الإعاقة يومًا ما أمام بناء أسرة متماسكة تنطلق من هويتنا الإسلامية السمحة في المقابل أسرة زوجها لا تخرج عن دائرة تفكير المجتمع، فمعظم الأُسر في مجتمعاتنا تفضل زواج الشخص المعاق من شريك مشابه له من ناحية الإعاقة (معاق سمعيًا يتزوج من معاقة في السمع)، أو أن يعاني الطرف الآخر في الزواج من إعاقة مختلفة ولكن يصنف ضمن فئة المعاقين (معاق حركيًا يتزوج من فتاة معاقة سمعيًا)، ويرون أن مصلحة زواج ابنهم من شريك يعاني من نفس الإعاقة أو إعاقة مختلفة سوف يساعد كثيرًا في نجاح الزواج واستمراره، ومبرراتهم في ذلك هو أن الشريك المعاق يكون أكثر تفهمًا وعلى دراية وإدراك ومعرفة تامة بطبيعة الصعوبات التي يعاني منها الشريك المعاق، إضافة إلى أن نوعية التواصل بين الشريكين تكون على أفضل وجه وأحسن حال، وبأن البيئة التي يعيش فيها الشريكان المعاقان تكون مناسبة ومؤهلة لكلا الطرفين، وفي حالة كون الشريكين من إعاقة مختلفة يكون هناك نوع من الكفاءة الاجتماعية بين الشريكين مما يساعد على نجاح هذا الزواج.

وهذا ما يؤكد أن الأُسَر تحاول تكريس واقع يمكن تجاوزه، فعوض أن تزرع في نفس المعاق بوادر الطموح والآمال، تحاول إحباط النفوس وعرقلة سير الأمور.. وبما أن زوجته امرأة واعية جدًا، فقد قبلت التحدي رغم أن العوائق كانت عويصة، خاصة أنه كان لا يزال يدرس، وكان لا بد عليها كموظفة أن تتجاوز العائق المادي الذي يطرح عند الكل وليس عند الشخص المعاق لوحده، حيث واضبت على الإسهام بجزء من مرتبها في نفقات البيت، وكلما كان هذا الإسهام فيه نوع من الرضا والسماحة كان التفاهم والاستقرار بينهما يزداد ويتعمق.

في مرحلة وجيزة جدًا عوضته عن جميع ما مر به من صعوبات، إضافة إلى ذلك غيرت حياته.. لم يشعر يومًا أنها تشفق عليه أو تحسن إليه، بقدر ما كانت تعتبره زوجًا كفؤًا لها، أتم مشواره العلمي بتفوق، ثم شق مشواره العملي عن جدارة واستحقاق، وأثبتت بذلك للجميع أن هذا الشاب رغم تهميش المجتمع له، إلا أنه عندما توضع الثقة في شخصه يكون أهلًا لها فعلًا، وربما نجد فيه ما لا نجده في شخص سليم، فقد كان يرى ببصيرته القوية كل ما من شأنه أن ينير درب حياته وحياتها معه، رغم أن العائلتين لم تثمنا هذا الزواج، بل ظلت توقعات فشل زواجهما تطاردهما حتى بعد أن أنجبا ثلاثة أطفال أسوياء إن القضية هنا تتعلق بإنجاب الأطفال وتربيتهم وتنشئهم، وتتعلق كذلك بقدرة الشريك غير المعاق على مساعدة الشريك المعاق في تلبية أمور حياته اليومية وفي تخطي الكثير من الصعوبات التي يواجهها الشريك المعاق، فهدف الزواج هنا هو الرعاية والتكافل والتراحم بين الزوجين، وهنا تبرز قضايا كثيرة أهمها مفهوم الكفاءة في القدرات البدنية أو الحسية أو العقلية، وهناك تجارب ناجحة في هذا المجال يقابلها تجارب أخرى لم تنل حظها في النجاح.

وفي أحسن الأحوال ليس من السهل على الشخص المعاق أن يجد شريكًا، وتلعب هنا عوامل وظروف أخرى غير الإعاقة دورًا في الأمر مثل المستوى الاجتماعي والاقتصادي للشخص المعاق، فالشخص المعاق القادر ماليًا يكون من الأسهل عليه الزواج حتى من شريك غير معاق. والأمر نفسه عند الحديث عن المستوى أو الطبقة الاجتماعية. إن للأسرة والمجتمع دورًا أساسيًا في الدفع بالمعاق نحو الأمام، ولا يخلو تفكير المجتمع من (إعاقة بصرية) اتجاه الشخص المعاق، تمنع المعني من تحقيق الاندماج الاجتماعي، ومن الشعور بالثقة في الذات ومن التقدير والمحبة في مجتمعه. فالزواج حق لكل بني آدم، ولا فرق في ذلك بين مبصر وكفيف، ما دامت الاستطاعة حاصلة والقدرة حاضرة فما المانع؟؟ لذا يجب أن نساهم بشكل كبير، في مساعدته لتحدي كل العراقيل التي تحول دون تحقيق حقه في الزواج، لأن الكفيف إنسان خلق لأداء رسالة الاستخلاف في الأرض، ولم يخلق عبثًا، بالتالي فهو لا يبحث عن إدماج، لأنه مدمج أصلًا، ولنا مثال في السيرة النبوية عبدالله بن أم مكتوم الذي استشهد في القادسية، وهو يحمل الراية، ولم يكن للمعاق برنامج خاص به، بل إنه ابن المجتمع، وعليه أن يؤدي وظيفة تليق به، فاليد العليا خير من اليد السفلى، وبعزة النفس يعيش محترمًا. كما لا ينبغي أن نكرس النظرة التي توهم المرأة الكفيفة، أنها لا تستطيع أن تؤدي وظيفتها أو أن يتزوجها إنسان سوي، خاصة في وقت أصبحت بعض شروط الزواج تعجيزية، ولا ننسى أنه يوجد في البر ما لا يوجد في البحر، فكم من أشخاص معاقين أثبتوا قدرات عالية لا يملكها السوي

لذا لا بد من مساعدتهم باستغلال إمكانياتهم وإمكانيات مجتمعهم، للتغلب على الصعوبات التي تمنعهم من قيامهم بوظيفتهم، ورفع أدائهم الاجتماعي إلى أقصى حد ممكن من خلال التوجيه والتدريب والتأهيل والمعاونة على استثمار ما تبقى لديهم من قدرات واستخدامها بكفاءة عالية، لأن الغياب شبه التام لهذه التسهيلات، يضاعف من شعورهم بـ”العجز” ويحول دون مشاركتهم في الحياة العامة والاعتماد على أنفسهم، وحين نعطي الحقوق لأكثر الفئات ضعفًا نكون قد خطونا نحو العدالة الحقيقية وحاربنا الفساد.

تعليقك على الخبر
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني | الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق
الاسم
البريد الإلكتروني

  • نوفك

    ‏والله العظيم إني دفعت الثمن غالي لأني كفيف