يُعرف به الصفوة المخلصون ويستمسك به البررة المتقون

خياط : الثناء على المحسنين والمدح للمجتهدين منهج قرآني وهدي نبوي

الجمعة ١٦ سبتمبر ٢٠٢٢ الساعة ٤:٤٠ مساءً
خياط : الثناء على المحسنين والمدح للمجتهدين منهج قرآني وهدي نبوي
المواطن - واس

أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور أسامة بن عبدالله خياط المسلمين بتقوى الله عز وجل في السر والعلن فالسعيد من اتقى الله وأقبل على مولاه، فأكرمه سبحانه ونعَّمَه واجتباه ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنوا بِرَسولِهِ يُؤتِكُم كِفلَينِ مِن رَحمَتِهِ وَيَجعَل لَكُم نورًا تَمشونَ بِهِ وَيَغفِر لَكُم وَاللَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ﴾.

وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها بالمسجد الحرام الثناءُ على المحسنين، والإشادةُ بالعاملين، والمدحُ للمجتهدين، منهجٌ قرآني، وهَديٌ نبوي، ومسلَكٌ تربوي، يسلُكه أولو الألباب، ويُعرف به الصفوة المخلصون، ويستمسك به البررة المتقون، الذين سلمت صدورهم من الغلِّ، وسَمَت نفوسهم عن الصغائر، وطَهُرت قلوبهم من السَّخائم.


إنهم يتلون كتاب ربهم بالغداة والعشي، فيجدون فيه الثناء العطر، على أصحاب النبي –صلَّى الله عليه وسلَّم-، لجميل صفاتهم، وكريم فعالهم، في قوله عزَّ اسمه: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾، كما يجدون فيه، الثناء على هذه الأمَّة، بأنها خير الأمم، وأنفع الناس للناس، لكونها تأمر بما أمر الله به ورسوله، وتنهى عما نهى عنه الله ورسوله، ولإيمانها بالله، وذلك في قوله سبحانه: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ الآية.
ويجدون فيه أيضًا الثناء على الأنصار، لمحبتهم إخوانهم المهاجرين، ولإيثارهم إياهم بكل ما تحت أيديهم، ولو كانوا في أشد الحاجة إليه، وذلك في قوله –عزَّ وجلَّ-: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
ومضى فضيلته قائلا وإذا نظروا في سُنَّة رسول الله–صلَّى الله عليه وسلَّم-، ألفَوا فيها حشدًا وافرًا، وجمهرة من النصوص الصحيحة، في الثناء على المحسنين، والمدح لهم بما هو فيهم من كريم السجايا، فقد أثنى النبي –صلَّى الله عليه وسلَّم- على الصديق –رضي الله عنه- لسَبْقه وحسن بلائه، وبَذله ماله في سبيل الله، فقال في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما، عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- أن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: “إنَّ أمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ في صُحْبَتِهِ ومَالِهِ أبو بَكْرٍ” وقال لعمر بن الخطاب –رضي الله عنه-: “والذي نَفْسِي بيَدِهِ ما لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ، إلَّا سَلَكَ فَجًّا غيرَ فَجِّكَ”. أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- والفجُّ: هو الطريق الواسع بين جبلين.

الثناء على الأنصار:

وبين الدكتور خياط ان نبي الأمة قال في الثناء على الأنصار ما أخرجه البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: “لَوْلَا الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأنْصَارِ، ولو سَلَكَ النَّاسُ وادِيًا وشِعْبًا، لَسَلَكْتُ وادِيَ الأنْصَارِ وشِعْبَهَا، الأنْصَارُ شِعَارٌ، والنَّاسُ دِثَارٌ”. والشِّعار: هو ما يلي الجسد من الثياب. والدِّثار: هو ما يكون فوق الشِّعار. وهو تعبير عن عظم مكانتهم بشدة قربهم منه عليه الصلاة والسلام وجاء في الثناء على الحسن والحسين –رضي الله عنهما- ما أخرجه الترمذي في جامعه بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: “الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة”.
فليس عجبًا إذًا أن يكون لهذا المنهج القرآني، والهدي النبوي، أعمق الآثار في نفوس سلف هذه الأمَّة وخيارها -رضوان الله عليهم- فحَفلت سيرهم بالكثير المعجِب، من حسن الثناء على مَن استحقه بحسن فعاله، وحلو خِصاله.
وأكد خطيب المسجد الحرام أن في الثناء على المحسنين، حِكَمًا كثيرة، وفوائد جليلة، منها: توجيه الأنظار إلى الخِصال الشريفة، والفِعال الحميدة، التي استحق عليها أهلها الثناء، ومنها تثبيت مَن اتَّصف بهذه الصفات وتشجيعه، وحثُّه على الاستدامة عليها، ومنها حفز الهمم، واستنهاض العزائم، بالتشويق لغيرهم ممن لم يتصف بتلك الصفات، إلى حسن التأسِّي وكمال الاقتداء، ومنها القيام بمقتضى العدل؛ إذ العدل يقتضي أنَّه كما يذم المسيء لإساءته، كما يثنى على المحسن لإحسانه.
فجميل أن يأخذ كل امرئ نفسه بهذا الخلق، ويتحلَّى بهذه الحِلية، وأن يُعوِّد عليه أهله وأولاده، وكل مَن يلي أمره، وإنَّه ليسير غاية اليسر لمَن يسَّره الله له، ووفقه إليه، فما هي إلا كلمة طيبة، وهي صدقة يتصدق بها المرء على نفسه، فيؤجر عليها، كما جاء في الحديث الصحيح: “والكلمة الطيبة صدقة”. أو دعاء للمحسن بحسن الجزاء، وهو عبادة يثاب عليها الداعي، كما جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمذي وابن ماجة في سننهما بإسناد صحيح، عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- أن النبي –صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: “الدعاء هو العبادة”.
وأوضح إمام وخطيب المسجد الحرام إنه لا يجني المرء من خُلُق الجحود والتجاهل، وكراهية الاعتراف بالفضل لأهله، والنفور من شكر مسدي المعروف على معروفه؛ غير أن يَصِم نفسه بوصمة الحسد، ويضعها عن مراتب الأخيار، ويقعد بها عن بلوغ المعالي، وعن اللِّحاق بالسابقين إلى كل فضل، والمتقدِّمين إلى كل خير، وإن في شيوع التخلُّق بهذا الخُلُق الكريم، والخصلة الجليلة، وعموم التحلِّي بها، أثرًا عظيمًا آخر، يتجلَّى في إبراز الصورة المشرقة لهذه الأمَّة المحمدية، إذ إنها تعرف للمحسن إحسانه، وتثني عليه، ولو كان من غيرها، كما تُنكر على المسيء إساءته، ولو كان منها، فهذا مقتضى العدل مع الخلق جميعًا، وهو الذي أمر به سبحانه بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

الثناء على المحسن: 

وأشار فضيلته إلى أن الثناء على المحسن لإحسانه، ليس منه المبالغة والإسراف في المدح، فإن هذا هو الذي جاء النهي عنه في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما واللفظ للبخاري، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أنه قال: “سمع النبي –صلَّى الله عليه وسلَّم- رجلاً يثني على رجلٍ ويطريه في المِدحة، فقال: أهلكتم -أو قطعتم- ظهر الرجل”. فإن المراد بالنهي: النهي عن المبالغة، والإفراط في المدح، بدليل قوله: “يُطريه”، والإطراء: هو مجاوزة الحد في المدح؛ لأنَّه -كما قال أهل العلم-: “لا يؤمَن على الممدوح في هذه الحالة أن يداخله العُجْب؛ لظنه أنه بتلك المنزلة، فربما ضيَّع العمل أو ترك الازدياد من الخير، اتكالًا على ما وُصِفَ به مما هو مبالَغ فيه”. ولذا: فإنَّ المراد بقوله –صلَّى الله عليه وسلَّم- في الحديث الآخر الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن المقداد –رضي الله عنه- عن رسول الله –صلَّى الله عليه وسلَّم- أنه قال: “احثُوا في وجوه المدَّاحينَ التُّرابَ”؛ إنَّه مَن يمدح الناس في وجوههم بما ليس فيهم، وأمَّا المدح بما فيهم فلا يدخل في النهي، على أن يقول في مدحه: “أحسبه كذا، والله حسيبه، ولا أزكِّي على الله أحدًا”. كما ورد بذلك الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن أبي بكر –رضي الله عنه-.
وعلى المحسن أن يجعل رضا ربه وقبول عمله: نصب عينه، وغاية كدحه، غير آبه بثناء مثنٍ ولا بذم ذام، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، إذا أخلص النية، وأحسن القصد، وابتغى وجه ربه الأعلى.