مدّ أحمر غير مسبوق يقتل آلاف الكائنات البحرية في أستراليا
رياح شديدة السرعة على عددٍ من محافظات مكة المكرمة
المدينة المنورة.. إرثٌ جيولوجي يمتد إلى أعماق التاريخ
توقعات الطقس اليوم: رياح وغبار وشبه انعدام مدى الرؤية بعدة مناطق
القبض على أطراف واقعة اعتداء ظهروا في محتوى مرئي متداول بحائل
رئاسة المسجد النبوي تعقد المجلس الأول لحلقات القرآن والمتون العلمية
ضبط 3 أشخاص مخالفين للائحة الذوق العام في الرياض
التأمينات تعيد التذكير بشروط صرف الدفعة الواحدة
حلول مبتكرة.. استخدم نتاج هدم المباني في طرق الرياض
ترامب يقاضي وول ستريت جورنال
تُعد المدينة المنورة إحدى أقدم وأهم التكوينات الجيولوجية في شبه الجزيرة العربية، وتقع في قلب الإقليم الغربي من المملكة العربية السعودية، ضمن ما يُعرف بـ”الدرع العربي”، وهو كتلة صخرية ضخمة تُغطي معظم غرب الجزيرة، ويعود تاريخها إلى أزمنة جيولوجية سحيقة تعود إلى ما قبل العصر الكامبري، أي أكثر من (540) مليون سنة, وتتموضع المدينة عند خط عرض (24.28) درجة شمالًا وخط طول (39.36) درجة شرقًا، ويبلغ متوسط ارتفاعها عن سطح البحر ما بين (600) و(640) مترًا، مما يجعلها محاطة بمرتفعات طبيعية من معظم الجهات، باستثناء الشمال الغربي.
ورغم مناخها الصحراوي الجاف الذي يتسم بالحرارة صيفًا والبرودة شتاءً، إلا أن المدينة المنورة برزت كواحة زراعية خضراء عبر التاريخ، مستفيدة من خصوبة تربتها ووفرة مصادر المياه الجوفية والأودية الموسمية، واشتهرت بزراعة النخيل وتنوع الغطاء النباتي, وتُشكّل المعالم الجغرافية والجيولوجية المحيطة بها عنصرًا أساسيًا في هذه الخصوبة، وتسهم التكوينات الجبلية والرسوبيات الحديثة في إثراء التربة بالعناصر الطبيعية.
وتحيط بالمدينة مجموعة من الجبال البارزة، يأتي في مقدمتها جبل أحد، الواقع شمال المسجد النبوي الشريف على بُعد نحو (5.5) كيلومترات، الذي يُعد رمزًا طبيعيًا وتاريخيًا في آنٍ معًا, ويبلغ ارتفاعه نحو (1077) مترًا عن سطح البحر، ويتكون في الغالب من صخور الريوليت النارية ذات اللون الأحمر الفاتح، الغنية بالكوارتز والفلسبار والبلاجيوكلاز، مع تداخلات لصخور الداسيت والبريشيا الريوليتية والطف, ويتميز النسيج الصخري لهذا الجبل بدقة تبلوره، مما يعكس مراحل تبريد بطيئة للصهارة في أعماق القشرة الأرضية.
إلى الغرب من المسجد النبوي، تقع جبال الجماوات، التي تُعرف بتضاريسها المتوسطة الارتفاع، التي تصل إلى نحو (965) مترًا، وتتكون من صخور الجرانيت والجرانوديوريت، وهي من الصخور النارية الجوفية، التي تشكلت نتيجة لتداخل حمم مصهورة ضمن أعماق القشرة الأرضية ثم تجمدت, ويظهر جبل جُمّة غرب المدينة، والممتد من جهة جامعة طيبة حتى حيّ السلام، بارتفاع يبلغ حوالي (944) مترًا، ويتكوّن في معظمه من صخور الجرانيت.
أما جبل سلع، الواقع شمال غرب المسجد النبوي، فيتكون من صخر الجابرو القاعدي، قاسٍ وصلد، مصدره بلوتوني (جوفي)، ولونه رمادي قاتم يميل إلى الأسود، ويصل ارتفاعه إلى نحو (681) مترًا, ويبرز جبل عير، جنوب المدينة، كأحد المعالم البركانية البارزة، وتحيط به صخور البازلت من مختلف الجهات، باستثناء الشمال الغربي، مما يشير إلى نشاط بركاني قديم أسهم في تشكيل بنيته, وتضم المدينة أيضًا جبل أم سالمة شمال غربها، على بُعد نحو (17) كيلومترًا، ويُعد من أبرز التكوينات الجرانيتية التي تشهد على التاريخ الجيولوجي العميق للمنطقة.
وتزخر المدينة المنورة بأنواع متعددة من الصخور التي تُعبّر عن مراحل جيولوجية متنوعة, ومن بين هذه الصخور ما يُعرف بـ”صخور القاعدة القديمة”، وهي تكوينات نارية وحمضية وقاعدية (مثل الريوليت، الداسيت، والأنديزيت) تعود إلى ما قبل العصر الكامبري، وتظهر بشكل واضح في شمال وغرب المدينة, وتتخللها صخور فتاتية، مما يدل على وجود نشاطات بركانية.
ومن التكوينات الأخرى البارزة ما يُعرف بـ”صخور المحقونات الجوفية”، وهي عبارة عن حمم نارية مصهورة اندفعت من باطن الأرض، وتغلغلت داخل القشرة الأرضية، ثم بردت ببطء مكونة صخورًا نارية جوفية كصخور الجرانيت، والجرانوديوريت، والديوريت، والجابرو, واندست هذه الصخور في تكوينات القاعدة القديمة، وتعرضت لاحقًا لعمليات تحول بفعل الحرارة والضغط.
وتحيط بالمدينة ثلاث حرات بركانية ضخمة، تُعد من أبرز ملامحها الجيولوجية، وتعرف علميًا باسم “الصخور البركانية الحديثة”، وهي ناتجة عن تدفقات حمم بركانية بازلتية قاتمة اللون تعود إلى العصور الجيولوجية المتأخرة، وتغطي هذه الحرات أجزاء واسعة من المناطق المحيطة بالمدينة المنورة، وتحيط بالمدينة المنورة على شكل ذراعين يطوقها الأول من جهة الشرق، ويعرف بالحرة الشرقية (حرة واقم)، ويطوقها الثاني من جهة الغرب، ويعرف باسم الحرة الغربية (حرة الوبرة).
يذكر أن الحرة الغربية أوسع انتشارًا من الحرة الشرقية, وتمتد صخورها البازلتية بعيدًا نحو الجنوب، حتى تصل إلى شرق جبل عير, وتُرى هذه المجموعة البازلتية بوضوح على جانبي طريق القصيم، وتنتج هذه التكوينات عن النشاط البركاني القديم الذي أسهم في تشكيل البنية الطوبوغرافية للمنطقة.
وإلى جانب الجبال والحرات، تمثل الرسوبيات الحديثة أحد أبرز العناصر الجيولوجية في المدينة المنورة، وتُغطي الجزء الأكبر من أرضها مكونة حوضًا رسوبيًا، بمتوسط ارتفاع يبلغ نحو (625) مترًا عن سطح البحر, وتعود هذه الرسوبيات إلى عمليات الحتّ والتعرية التي تتعرض لها المرتفعات الجبلية المحيطة، وتم نقل معظمها إلى أرض المدينة عبر شبكة من الأودية الموسمية، التي تجري فيها المياه خلال مواسم الأمطار، جالبة معها كميات كبيرة من التربة والفتات الصخري.
ومن أشهر هذه الأودية وادي العقيق، الذي يعبر المدينة من الجنوب إلى الشمال، ويلتقي بوادي قناة غرب جبل أحد، ويُعد من أقدم الأودية تاريخيًا وأكثرها أهمية، نظرًا لخصوبته ودوره في تغذية الأراضي الزراعية, يليه وادي قناة، القادم من الشمال الشرقي، الذي يمر شرق جبل أحد قبل أن يتجه غربًا نحو منطقة زُغابة, ويمر وادي بطحان جنوب المدينة، غرب جبل سلع، ثم يتجه شمالًا، بينما يلتقي وادي الرانوناء، القادم من الجنوب الغربي، مع بطحان عند قباء، ليستكملا جريانهما شمالًا, أما وادي الحمض، الذي يستمر مجراه باتجاه الشمال قليلا، ثم ينحرف نحو الشمال الغربي ليتابع مساره الطويل بين الجبال، حتى يصب أخيرًا في البحر الأحمر.
وتلعب هذه الأودية دورًا رئيسيًا في تشكيل الطبيعة الجيولوجية للمدينة، فهي تسهم في ترسيب طبقات من التربة الطينية والغرينية والرملية، وتُغذي الحوض الرسوبي بالمواد العضوية والمعدنية، مما يزيد خصوبته ويدعم الغطاء النباتي.
وعلى الصعيد الهندسي، تُعد الصخور المنتشرة في المدينة المنورة، وخصوصًا الصخور النارية كالجرانيت والبازلت والأنديزيت، ذات أهمية كبيرة نظرًا لكثافتها العالية وقدرتها على مقاومة الضغط، مما يجعلها ملائمة للاستخدام في المنشآت الإنشائية الثقيلة وأعمال البنية التحتية، وهو ما انعكس فعليًا في كثير من مشاريع التطوير العمراني بالمنطقة.
ويمكن الاستفادة من بعض أنواع الصخور الرسوبية الفتاتية، كمواد أولية ذات جودة عالية في صناعة الخرسانة، وتنتشر في شمال وغرب المدينة المنورة وخاصة في المناطق الجبلية الممتدة إلى الشمال من جبل أحد، وعلى جانبي طريق تبوك القديم, وتتكون هذه الصخور من تلاحم شظايا وحبات صخرية غير متجانسة، نتجت عن إعادة ترسيب مواد بركانية قديمة متكسرة, وتُعد التربة والرسوبيات الناعمة الحديثة الموجودة في سد البيضاء صالحة للاستخدامات الزراعية, والمدينة المنورة ليست فقط مركزًا دينيًا وتاريخيًا، بل تمثل كذلك متحفًا جيولوجيًا مفتوحًا يعكس تنوع الأرض وتاريخها الطويل، ويقدّم للباحثين والمهتمين فرصًا غنية لفهم العوامل الطبيعية التي أسهمت في تشكيل ملامحها على مر العصور.