الطريق المهجور إلى ريادة الأعمال!

الجمعة ١٥ فبراير ٢٠١٩ الساعة ٧:٤٧ مساءً
الطريق المهجور إلى ريادة الأعمال!

الكثير والكثير يبحث عنها.. يفتش هنا وهناك… بل على استعداد أن يغامر بما يملك من أجل الوصول إليها… لكن السؤال بعد أن كثر المغامرون والمتسابقون… من وصل بنجاح وحقق الهدف؟… هم القلة.. بل ربما الندرة.

أتحدث عما يسمى بريادة الأعمال… فقد تغنى بها الحالمون وتسابق من أجلها الطامحون.. وخطب ودها الخاطبون… يصفها من يسعى حثيثًا نحوها بأنها كالنجوم.. يمكنك أن تراها بوضوح.. تضيء بل تتلألأ.. تضفي جمالًا أخاذًا إلى ظلمة الليل، ولكنها في الوقت ذاته تبدو بعيدة… فالطريق شاق والسفر طويل والثمن باهظ.. لكن.. هل هي مستحيلة؟.. بالتأكيد لا.. فطالما فعلها غيرك فلِمَ لا تفعلها أنت؟.. نعم هي ليست من ضرب الخيال أو سراب ينتهي بك إلى المحال.. بل إنها قريبة المنال ولكن ممن؟؟.. ممن أرادها وعشقها بل وتنفسها.. ممن يعيشها في كل لحظة من حياته.. فهي بالنسبة له ليست حرية تجلب المال وحسب… ولكنها تعني لعشاقها أكثر من ذلك.. هي حرية العقل والفكر والعمل والإنجاز.

نعم.. هي حرية العقل بأن أملك زمام عقلي فلا أكرهه على التفكير فيما لا يحبه.. لا يطيقه.. لا يستسيغه.. وبالتالي لا يتقنه!.. فأين متعة الحياة وأنا لا أضع أكبر نعمة فضلني الله بها على سائر المخلوقات في موضعها؟!.. حرية عقلي بأن أفتح أمامه مجالات تهواها النفس وتتوق إليها فينثر جواهره وكنوزه… ليصبح الجهد والمثابرة متعةً وجمالًا… حرية عقلي ألا أكبح جماح مصادر قوتي ولا عنفوان إمكانياتي ولا أخنق أحلامي ولا أكبل أمنياتي ولا أحجب طاقاتي ولا أخمد ذلك الصوت الذي يأتي من داخلي.

نعم.. هي حرية الفكر، وإلا أين متعة الحياة في أوقات رتيبة باهتة تخلو من الإبداع والتجدد والاتقاد؟!… وأين متعة الحياة في سنوات تعقبها سنوات خالية من الإنجازات والفوز والتقدم والرقي وتحقيق الأهداف في مجالات أحبها وأعشقها؟!.. هو فكري أخلي سبيله من قيود الخوف والتردد وصنوف الإمعان في التحليل والتدقيق والتسويف.. فينطلق إلى ما يريد ليملأ الدنيا عملًا ونماءً وزهوًّا.

نعم.. هي حرية العمل والإنجاز فحياتي تتلون بإنجازاتي.. هي التي تضفي معنى لأوقاتي.. لجهدي ودمي ومثابرتي وصبري.. فكيف أسلم عقلي إلى طريق لا يريده.. لا يرغبه.. شتان بين عقل يعيش فيما أريده فيحاول ويحاول ويحاول… حتى يفوز.. وآخر.. أجبره على السير في طريق لا يستهويه.. فيتجرع مرارة الحرمان ولا يكاد ينير لي الطريق.. حتى يملأ الظلام ساحاتي.. فأتعثر من الوهلة الأولى فتستهويني العثرات لتصبح ديدني وسلوكي!!

رغبتي في ريادة الأعمال تعني أنني أريد أن أكون ما حلمت به منذ الصغر.. يوم أن كنت أفكر بلا قيود.. بلا خوف.. بلا تردد.. بلا إمعان في الاحتمالات…. يوم أن كنت لا أعرف سوى شيءٍ واحدٍ فقط.. هو ما أريده!!!…. فإذا كنت ممن يخالج فؤاده هذا الحلم وتتجاذبه تلك المشاعر ولا يحيد بناظره عن ذلك الطريق… فأهلًا بك في عالم رواد الأعمال…… كان هذا ما يقوله الجانب التحفيزي نحو ريادة الأعمال، سواء حديث النفس أو برامج نشر ثقافة ريادة الأعمال أو الكثير من الكتب التي تدعو إلى ترك العمل الوظيفي والانطلاق نحو بدأ العمل التجاري الخاص، وجميع ذلك مقبول ولا يساورني أدنى شك في أهميته، ولكن يبقى السؤال هنا… إذا كان التحفيز كافيًا فما السر في الفرق الشاسع بين أعداد من لديهم الرغبة في ريادة الأعمال والعدد الفعلي لمن يخوض التجربة بل ويستمر في المحاولات حتى النجاح؟

تشير الدراسات في مجال ريادة الأعمال أن من يملك الرغبة في بدأ العمل التجاري يصادف العديد من الصعاب، ومن أهمها المشاعر السلبية التي تتملكه بين الحين والآخر، وما يجعل ذلك في غاية الأهمية أن تلك المشاعر قد تتمكن منه وتؤدي به إلى التوقف بل والإحجام عن تنفيذ أفكاره، بينما في المقابل يؤدي حسن التعامل مع المشاعر السلبية والسيطرة عليها إلى المقاومة والاستمرار وتخطي الصعاب. لذا، تعتبر مقدرة الأشخاص على التعامل مع الصعاب، ومنها المشاعر السلبية، من المهارات التي تميز الرواد عن غيرهم. إذًا، ومن أجل أن نهيِّئ الأفراد للنجاح في ريادة الأعمال علينا ألا نكتفي بإطلاعهم على الصورة الزاهية والجوانب العملية فقط، ولكن لتكن الصورة كاملة فتشمل التحديات النفسية وأبعادها وكيفية التعامل معها مثل الخوف من الفشل، الإحباط، المحاولات غير الناجحة، الرفض، القلق، الضغوطات، وبعض الثقافات السلبية للبيئة من حولهم. إن إدراك ذلك يمكن الأفراد الذين تتملكهم رغبة جامحة في خوض غمار العمل الحر من طرح تساؤلات مثل… هل تستطيع أن ترى الصورة كاملة للطريق الوعر الذي ستقدم عليه؟ هل لديك الاستعداد التام للاستمرار في الطريق؟ هل ترى فقط الصورة النهائية لنجاح من سلك هذا الطريق أم أنك تدرك جيدًا الثمن الغالي الذي قدمه الناجحون في سبيل ذلك؟ هل تعتبر الطريق مجرد مرحلة مؤقتة حتى تجد الوظيفة المناسبة أم أن شغفك يسابقك ورغبتك في الإنجاز تقودك مهما كانت الصعاب؟

تشير الدراسات إلى أن هناك أسبابًا مختلفة لهذا البون الشاسع بين الرغبة في العمل الحر والتنفيذ، ومنها أن العمل الريادي ليس من السلوكيات البسيطة التي يسهل تنفيذها مباشرة بمجرد وجود الرغبة المحفزة لذلك، بل إنها تتضمن الكثير من التعقيدات ما بين أنماط التفكير والمؤثرات الداخلية والخارجية التي تؤدي إلى الإقدام تارة والإحجام تارة أخرى. أيضًا يعتبر الوقت اللازم للانتقال من مرحلة الرغبة في العمل التجاري إلى البدء الفعلي طويلًا نسبيًّا مقارنة ببعض السلوكيات الأخرى مما يعرض الأفراد لمختلف المؤثرات. لذا، يتضح جليًّا أن من يملك القدرة على التعامل الفعال مع التعقيدات والصعوبات والتحديات العملية والنفسية المصاحبة للبدء في العمل الحر سيتمكن من ترجمة رغبته إلى أفعال، بينما تؤدي الفترة الطويلة بين الرغبة والفعل في العمل الريادي مع عدم القدرة على التعامل مع صعوباتها إلى التسويف والتوقف والانسحاب.

ذهب الكثير من الباحثين في مجال ريادة الأعمال إلى أن النجاح في تحويل الرغبة بالعمل الحر إلى واقع ملموس يتطلب مرحلتين رئيستين، هما؛ وضع الهدف وقوة الإرادة، حيث إن الأفراد الذين يتمكنون من الجمع بين هدف واضح ومهارات ومعرفة مع قوة إرادة سيستطيعون البدء بالعمل بدلًا من الاكتفاء بالرغبات. فيما يخص الأهداف، وصفت بعض الدراسات السلوك الريادي بالرحلة المليئة بالمشاعر والأحاسيس الإيجابية والسلبية؛ حيث إن الأشخاص ينجذبون إلى سلوك معين عندما يعتقدون أنهم يملكون المعرفة والمهارات اللازمة للنجاح فيه، بينما يصابون بمشاعر سلبية كالإحباط عندما يكتشفون بأنهم لا يملكون المهارات اللازمة أو المعرفة الكافية للقيام بما يرغبون فيه، وهنا يبدأ معيار الاختلاف في الظهور بين من يملك الرغبة الحقيقية لإنجاز ما يرغب به فيبحث عن حلول لما يفقده من مهارات ومعرفة، وبين من يعزز من نقص القدرات المطلوبة لديه لتتحول إلى تردد وتسويف وانسحاب. إن أنجع الحلول في هذه المرحلة هو تحديد العمل الحر كهدف لا حياد عنه، ومن ثم تحديد المعارف والمهارات اللازم اكتسابها للوصول للهدف.

بعد مرحلة تحديد الهدف واكتساب المهارات اللازمة لبدء العمل الحر، تبدأ مرحلة أخرى وهي المحافظة على الهدف وحمايته من المؤثرات المحيطة التي تؤدي إلى عدم ترجمة الهدف إلى أفعال، حيث تشير الأبحاث إلى أن العامل الرئيسي في هذه المرحلة هو قوة الإرادة والسؤال هنا عن وسائل المحافظة على هدف البدء في العمل، والتي تمكن الأشخاص من مقاومة المؤثرات المختلفة. تشير الأبحاث إلى عدة وسائل منها وضع خطة تنفيذ والتي تؤدي إلى زيادة وضوح الطريق نحو الهدف وتقليل الغموض المصاحب عادة للعمل التجاري. الوسيلة الأخرى هي طريقة تقييم العقبات التي يتعرض لها الأفراد الراغبون في بدء العمل الحر، حيث إن تقييمها على أنها تحديات يعني أن الشخص يتوقع نتائج إيجابية، وبالتالي يرتفع معدل الثقة بالنفس والتكيف مع الصعوبات وقوة الإرادة، بينما تقييم العقبات على أنها تهديد لأسلوب حياته يؤدي إلى توقع نتائج سلبية ونقص الثقة بالنفس والإيمان بأنه لا يمكن التكيف مع الصعوبات وبالتالي الخوف من الفشل والانسحاب والتوقف عن تحقيق الرغبات. لذا، دلت بعض الدراسات على أن ريادة الأعمال تظهر للبعض بأنها مليئة بالضغوطات الشديدة والوحدة والقلق المستمرين، بينما الحقيقة أن ذلك يعتمد على تقييم الأفراد لتلك المؤثرات وإمكاناتهم للتعامل معها.

والخلاصة أن دعم وتعزيز ريادة الأعمال في المجتمعات ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار الصورة الكاملة لمتطلبات ترجمة الرغبة في العمل الريادي إلى واقع من خلال الجمع بين التحفيز وقوة الإرادة، بحيث يتضمن التحفيز طرق وضع الهدف بطريقة فعالة تحدد المعرفة والمهارات اللازمة للعمل الريادي وكيفية اكتسابها، ثم يأتي بناء القدرات للتعامل مع العقبات من خلال خطط التنفيذ والتقييم الإيجابي للتحديات؛ مما يؤدي إلى زيادة الثقة بالنفس والتكيف مع العقبات وتقليل الخوف من الفشل وما يتبعه من مشاعر سلبية تؤدي إلى عدم إمكانية تحويل رغبة الأفراد إلى حقيقة ملموسة.

*دكتوراه ريادة الأعمال-جامعة بليموث

ماجستير ريادة الأعمال-جامعة سري

[email protected]

تعليقك على الخبر
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني | الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق
الاسم
البريد الإلكتروني