خطيب المسجد الحرام يستخلص دروس الهجرة النبوية

الجمعة ٢١ أغسطس ٢٠٢٠ الساعة ٢:٥٩ مساءً
خطيب المسجد الحرام يستخلص دروس الهجرة النبوية
المواطن - الرياض

أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور بندر بليلة المسلمين بتقوى الله في السر والعلن ابتغاء مرضاة الله عز وجل والبعد عن سخطه.

https://youtu.be/k7EF8u5fPiI

وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام لما اقتضت حكمة الله تعالى ورحمته بالخليقة أن يتعاهدهم بمن يصلحهم ويسوس أمرهم ويسوقهم إلى مراشدهم، وينقلهم من الضلال إلى الهدى، ويحفظ عليهم الفطرة المقررة بعث فيهم أنبياء ورسلًا، هم خيرة الخلق، وصفوة الحق، السفراء بين الله وخلقه، يبلغونهم رسالاته، ويعلمونهم آياته ومراداته، ويمشون بينهم بأحسن الأخلاق، وأشرف الصفات، حتى يكونوا بغيةً للمقتبسين، وقدوةً للملتمسين.

فدرج على هذا الدرب صفوة كثيرة، ونهل من هذا الشرب خلاصة أثيرة، كان آخرهم علم الهدى، وسيد الورى، خاتم النبيين، ورحمة الله للعالمين: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، النبي العربي القرشي الهاشمي، سليل إبراهيم الخليل من ولده الذبيح إسماعيل، صلى الله عليهم وسلم وشرف وكرم ختم الله به ديوان الرسالة، وتمم به أنوار النبوة، وجعله باب الخليقة الشارع إلى جنته، ودليلهم الموصل إلى رحمته، لا يقبل الله بعد بعثته دينًا غير دينه، ولا يرضى طريقةً غير طريقته، هو وأمته الآخرون في الدنيا الأولون يوم القيامة.

مثله ومثل الأنبياء من قبله كمثل رجل بنى بنيانًا، فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فكان -بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم- هو هذه اللبنة، التي كملت حسن البناء، وأخذت منه مأخذ الدرة من التاج، والواسطة من العقد، فكانت خير لبنة في خير بناء، ومثله ومثل أمته كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حولها، جعل الفراش يقعن فيها، ويتهافتن عليها، وهو يحجزهن عنها: فيغلبنه ويتقحمن فيها بعثه ربه سبحانه وقد عم أهل الأرض عربًا وعجمًا بمقته، إلا بقايا من أهل الكتاب، والناس في الأرض يومئذ صنفان: أهل كتاب بدلوا وغيروا، وأهل أوثان عبدوا ما صنعوا واستحسنوا!

وأضاف فضيلته فكانت البشرية حينئذ أحوج ما تكون إلى من يبدد عنها ظلمات الغي والضلالة، ويجدد فيها أنوار الهداية ومشاعل الاستقامة، يجدد ما ندرس، ويحيي ما انطمس، ويجلو عن وجه الحق ما اكفهر وعبس! فجاءه الحق من ربه وهو يتحنث بغار حراء، فغطه حتى بلغ منه الجهد، فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ… حتى قال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لا يعلم) العلق: ١ – ٥.

وأشار الدكتور بليلة إلى نزول هذه الآية كان إيذانًا باستفتاح النبوة المحمدية، وإرهاصًا بوحي سماوي خاتم للرسالات، يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام! ثم أنزل الله تعالى ذكره عليه الآية تلو الآية، آمرًا إياه بالنذارة والبشارة، فأنذر قومه زمنًا سرًا، ثم أمره ربه أن يصدع بدعوته جهرًا، غير مبال بالمشركين في جنب الله؛ فلاقى من أذى المشركين في مكة أبلغ المشاق، فكذبوه وصدوا عنه، وقالوا: معلم مجنون! وقالوا: شاعر نتربص به ريب المنون! وقالوا: إن هذا لساحر مبين! بل قالوا: أضغاث أحلام، بل افتراه، بل هو شاعر، فليأتنا بآية كما أرسل الأولون! فما ازداد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صلابةً في الحق، وما ازداد المكذبون إلا عنادًا في الباطل، بل لجوا في عتو ونفور!

ومضى فضيلته قائلًا: ولقد جرت بينهم وبين رسول الله شؤون وخطوب وأحوال وأهوال، ورسول الله مع كل ذلك يصفح ويعفو، ويرجو أن يكون منهم من يؤمن به ويصدقه..

ولما سألته زوجه الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها يومًا: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال صلى الله عليه وسلم «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت؛ فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد! إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا» [أخرجه الشيخان].

وعن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي ؟ قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة؛ إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟! [أخرجه البخاري] وعن عبد الله بن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول الله يحكي نبيًا من الأنبياء ضربه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». [أخرجه الشيخان].

وأوضح إمام وخطيب المسجد الحرام في خطبته أنه لما استحكم البلاء على العصبة المؤمنة بمكة، أذن الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، ليكون في مأمن من تربص قريش، يدعو إلى ربه، ويقيم دينه الذي ارتضاه بين ظهراني أهل المدينة.. فهاجر صلى الله عليه وسلم وأصحابه أرسالًا إلى المدينة واتخذوها وطنًا وكانت هذه الهجرة فيصلًا بين الإسلام والكفر، أعز الله بها الإسلام، وأذل بها الكفر، وضرب بها على عهد من الأذى والعذاب والخسف لقيه المسلمون بمكة.

فدالت الدولة للإسلام، ودحرت دولة الكفر، وجعلت كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ووقعت بين أهل الإسلام والكفر معارك اعترك فيها الحق والباطل، وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا! وتكللت حياة المسلمين بعد ذلك بألوان من الظفر والنصر يوم بدر والأحزاب، كما منيت حياتهم قبلها بالضعف والانكسار، وانكسر أهل الكفر خائبين لم ينالوا خيرًا.

وفتح الله على نبيه مكة أحب أرض الله إليه، وهو عزيز الجانب منيع الحمى، ظاهر المعونة والتأييد والرعاية، ذلك الفتح المبين الذي أتى وكأن لم تسكب يومًا على عرصات مكة العبرات، وتشتد الآلام، لقد جاء الفتح وقد هلك من صناديد الكفر من هلك، واتبع رسول الله وسلك سبيل المؤمنين منهم من سلك!

وأكد فضيلته أن حديث الهجرة لينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أن الشدائد لا تدوم، وأن الاصطفاء قرين الابتلاء، وأن المكارم منوطة بالمكاره، وأن العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات، وأن العبد يبذل الأسباب والله ينجح المساعي، وأن الفرج مع الصبر، وأن النصر مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا! إنها هجرة تكشف: أن سيرة النبي الهادي عليه أفضل الصلاة والتسليم عليها توزن الأقوال والأعمال والأحوال، وأنه لا خير في هدي يخالف هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها وأن مكابدة المشاق طريق الانطلاق.. ومن ظلمة الآلام تنبلج أسارير الآمال! هجرة تفصح: أن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن هجرة الأبدان تنقطع وهجرة القلوب إلى ربها دائمة ما دامت الأرواح في الأجساد.