الوطنية في الشريعة الإسلامية

الأحد ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٠ الساعة ٩:٠٠ مساءً
الوطنية في الشريعة الإسلامية
بقلم : خالد علي *

إن حب الوطن غريزة مركوزة في النفس البشرية، جاء الإسلام واعترف بكينونتها وأقرها بقوة، وترجمها إلى الواقع حوادثُ السيرة، وقصصُ التاريخ الإسلامي.

لن أتحدث هنا عن التأصيل الشرعي لحب الوطن؛ لأن حب الأوطان فطرة فطر الله الناس عليها.

فحسبنا أن الله قرنَ ألمَ مفارقة الأوطان بخروج الروح من الجسد، فقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} فلا غرابةَ بعدئذ أن يحزن النبي- صلى الله عليه وسلم- على فراق وطنه مكة، وقد قال بأسف واستنكار: ((أَوَمُخْرِجيَّ هم؟!)).

ومما يدل على حب الوطن وعظم مكانته: أن الإخراج من الأوطان استمر عقوبة موجعة منذ فجر التاريخ، فعاقب الله تعالى اليهود فأخرجهم من وطنهم، وجعلهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، يتخبطون الليل والنهار، ثم جاء الشارع الإسلامي فاختار النفي عن الوطن عقوبة شرعية لبعض الجرائم الكبيرة.

إن الوطنية، وهي قيامُ الفردِ بحقوق وطنه المشروعة في الإسلام لا تُعارض الدين والعقيدة، كما يصور ذلك الغلاةُ المتطرفون.

فالانتماء الأكبر هو الانتماء للإسلام، ثم يتفرع منه الانتماءات الأخرى، الانتماء للوطن، ثم الانتماء للأسرة، ولا تعارض بين هذه الانتماءات، فكل منها يكمل الآخر ويقويه.

إن الانتماء للوطن انتماء شرعي، وليس ثمة تنافر أبدًا بين الولاء للإسلام وبين الولاء للأوطان من وجه من الوجوه المعتبرة شرعًا.

فانتماء المسلم لوطنه الذي يعيش فيه، ما هو إلا دائرة من دوائر الانتماء التي شرعها الإسلام، وجعلها بحكمة بالغة تتداخل ولا تتعارض.

وإن قوة الوطن في ترابط أفراد المجتمع وتماسكهم، كما أن ضعف الوطن في تفرق أفراده وانتشار الخلافات والخصومات فيما بينهم، ومن ثم فإن التعايش السلمي بين أفراد المجتمع ضرورةٌ اجتماعية، بل فريضة شرعية، والوطن يسع الجميع.

وقد عاش النبي- صلى الله عليه وسلم- في مجتمع المدينة، وهو مجتمع متنوعٌ، ونظم وسائلَ التعايش فيما بينهم، وبين ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، وأقام العدل بينهم، وأعطى كل ذي حق حقه، فكان هذا المجتمع الذي أنشأه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أعظمَ مثالٍ للمجتمعات الآمنة المستقرة.

ولذلك فإن الانتماء للوطن يحقق الأمن والاستقرار للمجتمع، من خلال الترابط الأسرى والترابط الاجتماعي، والتعايش بسلام وسماحة وعدل وإحسان بين أفراد الشعب.

إن المواطنة لا تعني بحال كما يتوهم الغلاة أن يعبد المسلم وطنه من دون الله.

كما أنها لا تعني أن ينعزل كل مسلم في وطنه منفصلاً عن عرى الدين وهموم الأمة.

إن عدم وضوح مفاهيم الوطنية أو المواطنة في الإسلام قد أدى بالفعل إلى حدوث شرخ في جدار التعايش السلمي بين أفراد بعض شعوبنا الإسلامية.

ومما يؤسف له بحق أن نرى البعضَ يتحرج مِن فكرة الانتماء للوطن أو يستخف من مصطلح الوحدة الوطنية، ويحسبُها ضعفاً في الولاء للإسلام!، وهذا خلاف السياسة الشرعية وما أوصى به نبي الأمة- عليه الصلاة والسلام- حين أخبر عن ظهور الفرق والأحزاب والجماعات بدعواتها المتناقضة ودعاتها المختلفين.

وذلك حين تنبأ فيما أخرجه الشيخان، من حديث حذيفة بظهور: “دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها”، فسأله حذيفة: فما ترى إن أدركني ذلك؟ فقال عليه السلام: “تلزم جماعة المسلمين وإمامهم”.

وهذه الجملة النبوية الأخيرة “تلزم جماعة المسلمين وإمامهم” تعني بالمصطلح المعاصر: لزومَ المجتمع والانتماءَ للوطن.

أو كما يقول الإمام الكبير الطبري: “الصواب أن المراد من الخبر لزومُ الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره”.

دعني أوضح لك ذلك ولا تستعجل:

إن للدولة ثلاثةَ أركان: (الشعب والحاكم والأرض) فقوله عليه الصلاة والسلام: “تلزم جماعة المسلمين وإمامهم” نَصٌّ في الركنين الأولين الشعب والحاكم، أما الركن الثالث وهو (الأرض) فهو كائن لزومًا، وهذا يعني أنه حالَ قيام الدولة بأركانها الماضية، فإنه يجب على المسلم أن يلزم المجتمع المسلم، المعبر عنه في الحديث (بجماعة المسلمين وإمامهم) وأن يكون ولاؤه لهم، وبتعبير آخر أن يكون انتماؤه لوطنه، وولاؤه لمجتمعهِ، وهذه هي المواطنة في المصطلح المعاصر.

 

* أكاديمي وكاتب إسلامي

تعليقك على الخبر
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني | الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق
الاسم
البريد الإلكتروني

  • امانى

    جزاك الله خيرا كثيرا