البودكاست ومأزق المسؤولية الإعلامية

الأربعاء ٢ يوليو ٢٠٢٥ الساعة ١٢:٥١ صباحاً
البودكاست ومأزق المسؤولية الإعلامية
بقلم: د.عبدالله فلاح العتيبي

شهدت المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة نموًا لافتًا في إنتاج البودكاست، حتى أصبحت من بين أكثر الدول العربية نشاطًا في هذا المجال. وتشير بيانات “بودكاست أرابيا” إلى أن السعودية تتصدر من حيث عدد المستمعين وعدد البرامج المنتجة، مع تسجيل نسبة نمو تتجاوز 60٪ سنويًا.

هذا التحوّل الرقمي يبين توق الجمهور إلى محتوى إعلامي مختلف عن الطرح السائد في تناول قضاياه وهمومة، ويفتح المجال أمام شرائح واسعة من المجتمع للمشاركة في الحوار والتعبير عن آرائهم ومشاركة تجاربهم.

ما يلفت الانتباه أن بعض هذه البودكاستات، رغم ضعف اعدادها، ومحدودية مواضيعها وطرحها، تقوم على استضافتها لشخصيات مثيرة للجدل، لا لما تملكه من معرفة أو قيمة مضافة، بل لقدرتها على صدمة الناس، وإثارة الجدل في المجتمع.

ورغم أن هذا الأسلوب يحقق مشاهدات عالية وانتشارًا سريعًا، إلا أنه يحمل آثارًا سلبية عميقة على المدى الطويل، خاصة عندما يُستخدم الحوار كذريعة لتبرير سلوكيات منحرفة أو نشر أفكار تهدد القيم المجتمعية.

وما يثير القلق أكثر، أن بعض الحلقات تتضمن إساءات واضحة أو ضمنية تجاه ثوابت وقيم، مثل مهاجمة المرأة، وتُعيد إنتاج صور نمطية سطحية تُغلّف أحيانًا بعبارات مثل “الصدق” أو “العفوية”، بينما هي في الحقيقة تكرّس ثقافة التهريج وتُقلّص من مساحة الاحترام تحت ستار النقاش.

ومما يزيد من تعقيد المشهد، أن البيئة التنظيمية الحالية لم ترتقِ بعد إلى مستوى هذا النمو المتسارع. فرغم الجهود التي تبذلها هيئة تنظيم الإعلام في مجال الترخيص وتصنيف المنصات، إلا أنه بحاجة لإطار تنظيمي واضح يضبط محتوى البودكاست. كما لا يوجد وعي بالأليات والطرق، التي يمكن التوجه لها لمساءلة من يسيء استخدام هذه المنصات، أو يروّج لخطابات الكراهية التي تضرّ بفئات المجتمع.

هذا الفراغ التنظيمي والمعرفي، أتاح المجال لظهور ممارسات عشوائية، تنتج محتوى ضعيفًا، وخاطئ، يتسلل بهدوء إلى وعي قطاع واسع من الناس، وكأنه يحاول تشكيل وتغير المسلمات بشكل تدريجي لكن مؤثر.

أرى أن المسؤولية تتوزع على ثلاث مستويات رئيسية: صانع المحتوى، والجهات التنظيمية، والجمهور.

صانع المحتوى الذي يركض خلف الانتشار والشهرة “الترند” دون وعي، أو دون التزام، يتحول من مصدر إلهام إلى أداة هدم.
أما الجهة المنظمة، فهي مطالبة بالتحول من دور المراقب المتأخر إلى جهة تنظيمية ذكية واستباقية، من خلال تبني ميثاق إعلامي واضح يضع خطوطًا فاصلة بين المسموح والمرفوض.

ويبقى الجمهور هو الحلقة الأهم، إذ يقع على عاتقه الارتقاء بذائقته الإعلامية وعدم الانجراف وراء محتوى مثير بلا قيمة، لأن كل مشاهدة غير واعية تعني دعمًا ضمنيًا لاستمرار هذا النمط من الإنتاج.

وفي ظل هذا الواقع، من الضروري تبني نهج متوازن يجمع بين دعم الإبداع وتحقيق المسؤولية الاجتماعية.

الهدف ليس فرض رقابة تقليدية أو تقييد المنصات، بل تمكين الأصوات الجادة وتقديم التدريب والدعم للمواهب الحقيقية.

كما ينبغي إطلاق حملات توعية إعلامية تستهدف رفع الوعي العام، وتشجع الناس على تقييم المحتوى بوعي، واختيار ما يغذي الفكر ويثري النقاش، بدلاً من الانجذاب إلى ما يثير الانفعالات السطحية.

فكما أن الصوت وسيلة للتعبير والحرية، يمكن أن يصبح أداة هدم إذا وُضع في يد من يفتقر للمسؤولية.

أمام هذه المؤشرات، تبرز الحاجة إلى وقفة صادقة تتجاوز الانبهار بالأرقام والإحصائيات، نحو قراءة أكثر وعيًا وعمقًا للواقع الإعلامي. فالبودكاست في السعودية يقف عند مفترق طرق: إما أن يصبح منصة تنويرية تعكس التنوع الفكري والثقافي الغني في المجتمع، أو أن يواصل الانحدار نحو محتوى سطحي يحقق ربحًا سريعًا على حساب القيمة.

ويجب الا يترك الخيار للمستفيدين، من هذه الحالة المرتبكة، لأن كل قرار نتخذه، سيرسم ملامح مستقبل اعلامي جديد.

@abdullahotaibi

تعليقك على الخبر
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني | الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق
الاسم
البريد الإلكتروني

إقرأ المزيد