دروس في الهوية لا تُنسى

الخميس ٦ نوفمبر ٢٠٢٥ الساعة ٣:٠٥ مساءً
دروس في الهوية لا تُنسى
بقلم: محمد آل راجح

وددتُ أن لو كنتُ أحد المحتفين بمديري في اليوم العالمي للمدير، الذي كانت فعالياته قبل أسبوعين، وهو في الحقيقة يستحق، لما يتحلى به من صفاتٍ قياديةٍ يفتقر إليها غيره من المديرين، وقيمٍ إنسانيةٍ تظهر جليّة في تعاملاته.

لا يقف عند صغائر الأمور إلا في اللغة وأساليبها وحركاتها وسكناتها، (وهذا بَلى بوك يا عقاب)، لدرجة أن الهمزات (الصغنونة) التي يستصغرها البعض لأنه حامض يا عنب لا يعرفون مواطنها إلا بالتقليد، يقف عندها سعادته وقفة المختص الذي يرى التهاون بها كالتهاون مع الفأر الذي هدم السد.

وذاك مما أجهد تفكيري في يوم الاحتفاء، وانشغلتُ بملفاتٍ ترتبط بهذا المجال في اليوم نفسه، مرة أستذكر قاعدةً نحوية، ومرة أبحث عن لفظةٍ مناسبة، ومرة عن جملةٍ معبّرة، ووقتًا مقتطعًا بين هذه المرات ألبس فيه وأخلع النظارة خوفًا أن تسقط همزة دون علمي، فمديري عادلٌ حتى بين الهمزات، لا ينظر إلى همزة القطع أنها الأقوى، وهمزة الوصل الأضعف كونها تسقط في درج الكلام حاشا لله.

وما (داير) أناقش موضوع تميّز أولئك النوع من المديرين بمهاراتٍ لغويةٍ عاليةٍ تفوق المتخصصين، لأن ذلك يقودني إلى سؤالٍ كبيرٍ جدًا ليس مكانه هنا، ولكن الشيء بالشيء يُذكر، وهو: هل التعليم نفعيّ بحت؟ لنقول عن هؤلاء إنهم مخطّطون جيدون لمرحلة التميز التي يعيشونها في حياتهم العملية الوظيفية؟

ليعود بي ذات السؤال إلى كراسي الدراسة، وهم يقولون أساتذتنا بالفم المليان وبنفس اللهجة التي لا يزال صداها في أذني حتى اليوم: “الوظيفة (عاوزه) شخص (مزاكر).”

“أقِلّي اللومَ عاذلَ والعتابا”، فمديرٌ كهذا (شكلين ما بيحكي)، وانسَ أن يمرّ نصٌّ دون تمحيصٍ وتحميص.

ولا أخفيكم أن هذا الأمر بقدر ما فيه من المواقف والتحديات، إلا أنه لا يخلو من الفكاهة والمراهنات التي تزرع الثقة بالنفس من كلا الطرفين، وتضفي جوًّا جميلًا على يوميات العمل، وتعطي طاقةً إيجابية.

وفي هذا السياق حاولت أن أستجمع قواي لأقدّم أحد الملفات بنبرة المتحدّي، دخلتُ إلى مكتبه متبخترًا مستشعرًا بيت الشاعر الباكستاني محمد إقبال:
“وكدتُ بأخمصي أطأُ الثريا.”

فباغتني بثلاثةٍ من الأخطاء قبل أن يرتدّ إليّ طرفي، وقبل أن أتلذّذ بكأسي من الشاي في مكتبه العامر!

بطبيعة الحال لن أشعر بمزاج الشاي في مثل هذه الظروف، رغم حبي الشديد لأجواء هذا المشروب الساحر، لكن الأمر أهون عليّ بكثير من أن أحتسيه على طاولةٍ تعجّ بمسمياتٍ لأصناف الشاي والقهوة تقتل المزاج.

ومن المضحك أنني حاولت أن أقتحم عالم الإتيكيت من هذا الباب، فناديتُ مقدم الخدمة وطلبتُ منه واحد (باريستا)، ظنًّا أن الباريستا أحد أصناف القهوة، ولم يخطر ببالي أنه صانع القهوة.

ومن حسن الطالع أن (طاح المتعوس على خايب الرجا)، فمقدم الخدمة ليس بأحسن حالًا مني، إذ لا يعرف ما هو الباريستا، واعتذر مني بطريقةٍ لطيفة.

عودًا على بدء: أيها المدير الجميل، بطريقتك تلك يجب أن يكون الاحتفاء بك لا على مستوى إدارتك، وإنما على مستوى وزارتك، لأنك قدّمتَ في الهوية والاعتزاز باللغة درسًا عمليًا على أرض الواقع لا يُنسى، وجعلتَ المختص يعيد حساباته، ويقلب صفحاتٍ في كتب اللغة ما كان ليرجع إليها لولا العمل مع سعادتكم.

تعليقك على الخبر
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني | الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق
الاسم
البريد الإلكتروني