“المواطن” تصطحبكم في رحلة عبر تاريخ الجامع الكبير في الرياض وأجوائه الرمضانية

الخميس ١ يونيو ٢٠١٧ الساعة ٥:٠٥ مساءً
“المواطن” تصطحبكم في رحلة عبر تاريخ الجامع الكبير في الرياض وأجوائه الرمضانية

هذا داخل وذاك خارج، وهذا منزو في ركن من أركان المسجد يتلو آيات من القرآن، بينما هناك شيخ في زاوية أخرى يبدو عليه الوقار يلتف حوله صبية كالتفاف الفراش على ضوء الفنار وهو يعلمهم ويحفظهم آيات من القرآن الكريم، وهذا شخص قائم يصلي ركعات في غير أوقات النهي، وهو يستند إلى سارية من السواري المنتشرة في (سرحة) المسجد.

هكذا كانت تدب الحياة في المساجد، لا سيما في رمضان، وتستمر الحركة منذ بزوغ الفجر إلى أن يرخي الليل سدوله.

واشتهرت مدينة الرياض، على مرّ الأزمان، بمساجدها الكثيرة، ومنها اختارت “المواطن” جامع الإمام تركي بن عبدالله (الجامع الكبير)، الذي يتربّع على قمّة هرم هذه المساجد شهرة وحجمًا وقِدَمًا، لنأخذكم معنا في جولة تاريخية.

 

جامعة عصره:

ويعد جامع الإمام تركي، بحق جامعة كبرى في عصره، حيث تقام فيه حلقات العلم التي يدرّس فيها كبار أهل العلم في ذلك العصر، والذين تتلمذوا على أيديهم جل علماء نجد لقرون عدة؛ مما أكسبه المكانة العلمية المرموقة التي ذاع صيتها في جزيرة العرب وما جاورها.

أمر الإمام تركي بن عبدالله بن محمد آل سعود، في أرض تسمى (النقعة) تقع وسط الرياض؛ بإنشاء جامع سمي فيما بعد باسمه، وعيّن عليه الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ.

 

وأخذ في الاعتبار قربه من أحياء عدة، فضلاً عن قربه من قصر الحكم، وزاد في بنائه الإمام فيصل بن تركي، وأصبح الجامع من أكبر وأهم المساجد في مدينة الرياض وأعظمها؛ نظراً لما يحتويه من أنشطة تعليمية وعلمية، وكان وما زال يمتلئ بالمصلين والعبّاد، وقرّاء القرآن الكريم وطلاب العلم والمعرفة، حتى عُرف المسجد بـ “الجامعة العلمية”، التي يفد إليها الطلاب من مختلف المدن والقرى النجدية.

ووصلت شهرة هذا الجامع ودروسه -الذي يعد أكبر جامع في نجد- بعد منتصف القرن الثالث عشر إلى خارج حدود الجزيرة العربية، إذ يذكر الرحالة الفنلندي روجر والن، عن الرياض والدروس التي كانت تعقد في مساجدها، أنه كان متحمسًا لسماع المحاضرات التي كانت تعقد في جامع الرياض، وتترك انطباعًا عن “تدين المجتمع”.

 

 

قالوا عنه:

في كتابه “تاريخ المساجد والأوقاف القديمة في بلد الرياض إلى عام 1373هـ (1954)”، يقول راشد بن محمد ابن العساكر، إنَّ “الجامع الذي يعرف حاليًا بجامع الإمام تركي بن عبدالله هو جامع بلد مقرن”، مبيّنًا أنَّ “بلد مقرن أطلق عليها فيما بعد اسم الرياض في بدايات القرن الثالث عشر الميلادي.

بدوره، بيّن الرحالة البريطاني، وليم بلجريف، أنَّ سطح المسجد فوقه منارة وبالقرب منها خلوة كان الإمام تركي يؤدي فيها صلاة الجمعة، وخلال رحلته في القرن الـ 19، قال بلجريف إن “الإمام تركي يصل إلى الخلوة من خلال الطريق المسقوف، الذي يصل بين القصر والمسجد مباشرة، فضلًا عن أن المسجد خال من الحصير أو السجاد”.

 

وأضاف “جامع كبير مستوي السطح متوازي الأضلاع، قائم على أعمدة خشبية مربعة الشكل، ويتسع لأكثر من ألفي مصل في وقت واحد، جله فناء خارجي يتسع لأكثر من ألفين أيضًا، خال من الزخرفة أو أي مظهر جمالي آخر، له منارة قصيرة مبنية على سطح المسجد وفوق المحراب مباشرة”.

وأوضح أنه “يقع إلى الجهة الغربية للساحة ممر مقوس طويل مرتكز على أعمدة عالية غير منتظمة، ويصل هذا الممر مباشرة بين القصر والمسجد الكبير مخترقًا الساحة، وتقع خلف أعمدة هذا الممر أسواق أخرى ومستودعات، وأن طول هذا الممر الذي يربط بين القصر والمسجد مائة ياردة”، مشيرًا إلى أنَّ “مئذنة الجامع متوسطة الارتفاع”.

 

وعند القيام بتوسعة الجامع الكبير وبنائه حديثًا، عام 1951، تم توسيع خلوة المسجد وزيادة طولها لتكون متساوية مع العرض، بينما كانت المصابيح في نفس مكانها القديم تقريبًا، وزيد في مساحته بعد أن أصبحت بلد الرياض مركز ثقل كبير، وزادت إليها الهجرات من المناطق الأخرى زيادة أوجبت توسعته.

وأشرف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، على توسعة المسجد، عام 1988، على أرض مساحتها 16800 متر مربع.

ويذكر الريحاني أنَّ “مئذنة الجامع مميزة، بل بسيطة؛ فهي ليست قصيرة أو عالية الارتفاع، وهي مثل المآذن الأخرى لمساجد الرياض”.

وعن سلم منبر الجامع، الذي يصعد منه الخطيب؛ أكّد أنَّ درجاته قليلة. ويشير الريحاني إلى أنه قد دار في ذهنه أن هذا المسجد ذكّره بمسجد قرطبة، وهو نسخة مماثلة لمساجد الأمويين في الأندلس.

أما فلبي، فقد ذكر أنَّ “الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه – يغادر إلى جناحه الخاص ومصلاه فوق الجزء الغربي من المسجد، الذي كان يصل إليه بواسطة جسر مرتفع يربط بين جزئي المسجد عبر السوق، وكان هذا المكان ممتداً بقدر اتساع المسجد، ولكنه لم يكن يتسع لأكثر من صفين طويلين من المصلين، وكان الإمام يؤم المصلين هنا أيضًا من المسجد أسفل هذا المكان، بحيث تظل النوافذ مفتوحة لكي يسمع المصلون صوت الإمام، أما القبلة فكانت ترتفع من المسجد إلى الطابق الأعلى.

الأئمة:

وعين الإمام عبدالله بن فيصل، الشيخ محمد بن محمود إمامًا في الجامع الكبير، وكان قاضيًا في الرياض عام 1283هـ، وبعد تولي الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – الحكم اهتم كثيرًا بشؤون الجامع الكبير.

ومن أشهر الأئمة الذين تعاقبوا على الجامع، الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، حتى وفاته سنة 1339هـ، ثم خلفه شقيقه الشيخ عمر، إضافة إلى أنه قد تولى إمامة الصلوات الخمس فيه الشيخ سعد بن عتيق، وفي عام 1370هـ عُين الشيخ إبراهيم بن سليمان المبارك إمامًا في الجامع، وكذلك أمَّ فيه الشيخ محمد بن عبداللطيف حتى وفاته عام1367هـ.

الحياة داخل المساجد

وكانت المساجد في رمضان كخلية نحل تشهد حركة دائبة؛ فالكل منهمك في تلاوة القرآن الكريم والتسبيح والتهليل وأداء النوافل في نهار رمضان، وإذا ما انتهت صلاة العشاء ترى المصلين يصطفون خلف إمام المسجد في صلاة التراويح وصلاة القيام في العشر الأواخر من رمضان، وبعد صلاة التراويح يبدأ العديد من المصلين صلاة التهجد الكل على حدة، وغالباً ما يكون لكل واحد سارية من سواري المسجد قد اعتاد على الصلاة أمامها؛ فيقال هذه سارية فلان من شدة ملازمتهم للصلوات والطاعات.

الحياة خارج المسجد

عرفت الحياة في نهار رمضان، خارج المسجد، شأنًا آخر؛ فالغالب على الأسواق مشاهدة سواد الناس؛ فالرجال يمشون وهم يلبسون (المشالح) السود وهي صفة التزم بها الرجال في تلك الفترة من الزمن؛ فقمة هندام الرجل أن يمشي وهو يلبس (المشلح) والنساء تلبس العباءات السود، وكل يمشي لغايته من دون تحسس؛ فالحياة الاقتصادية خارج المسجد تعج بالحيوية، وكل يسترزق الله، ويقضي حوائجه رغم الفقر والجوع.

وضمَّ محيط “الجامع الكبير” سوق التمور الذي كان يزدهي بمرتاديه الذين ينتقون أفخر أنواع التمور لإفطار رمضان، وسوق الماشية، وبجانبه سوق الخرازين، وبالقرب منه سوق الحطب، وسوق الحراج، وسوق الجملة، والمشالح والخياطين وغيرها من الأسواق العامرة بالبيع والشراء.

وكان من حياة الناس، متابعة المارة والتقاط الأخبار والتسلي بالوقت قبيل الغروب وموعد الإفطار، حيث يعود الجميع إلى بيوتاتهم لتناول الإفطار والراحة من عناء يوم كامل كان حافلاً بالجد والنشاط؛ ليقوموا بعد العشاء إلى صلاة التراويح، ومن ثم الخلود إلى النوم بعد السحور لمواصلة نشاطهم المعهود في كل يوم.